عجيب أمر ذاكرتنا الثقافية، فهي لا يتجاوز طولها أنفها وكأنها ضحية لزنيتها الغادرة. تدير الظهر لمثقفيها الأفذاذ، لأولئك الذين صنعوا متخيلها وفكرها النقدي، ربما لطابعهم المشاكس، أو ربما للعمق الغائر لفكرهم الذي يتجاوز سطحيتها البلهاء. وتحتفي بأكثر المثقفين تواضعًا، الذين يصنعون مجدهم الفكري والشخصي بالمساجلات واستغلال التلفزيون ونحت صورتهم كما يبتغون لها أن تكون.
ففي الوقت الذي نعيش فيه موت المثقف، وفي زمن ارتد فيه الفكر النقدي وصارت الثقافة عبارة عن مسْخرات تتداولها مواقع التواصل الاجتماعي، صارت الذاكرة الثقافية مثخنة بمرض النسيان. النسيان الثقافي مولود جديد انبثق من صلب الثقافة البصرية، التي تجعل من سلطة الحاضر اللامتناهي قيمة وجودية كبرى. فسنوات قليلة على رحيل عبد الكبير الخطيبي (1938 – 2009) نسيت الثقافة المغربية، ومعها الثقافة العربية حضورًا من نوع آخر لمثقف مفكر ذي نقد وقّاد لأوضاع المجتمع العربي ولمصائره التاريخية. هذا النسيان قد يكون تجاهلاً، تطويه ذاكرة لا تهتم إلا بالآني، وفي الآن نفسه لا تعترف إلا بالأصول الأسطورية التي ارتضتها لنفسها. تلك هي إيديولوجيا الدّوكسا التي ظلّ الخطيبي يبلور بشكل حثيث تفكيكه لها ويصوغ في الآن نفسه أفقًا فكريًا للوجود العربي.
الخطيبي، فكر متعدد وكتابة مستعصية على المحاكاة
اختار الخطيبي منذ كتابه الأول “النبي المقنع”، أن يسائل مصادر الوجود العربي، خارج الثنائيات الميتافيزيقية للأنا والآخر، وللذاكرة والحاضر. فهذه المسرحية التي لم ينتبه لها دارسوه كانت تؤسس لفكر نقدي يتعاطى من منطلقات جديدة مع قضايا سوف يستعيدها في ما بعد سواء في كتابه عن الرواية المغاربية أو في الذاكرة الموشومة، التي صارت تعتبر كتابه المرجعي. الذاكرة الموشومة كتابة جديدة، لا هي بالرواية ولا هي بالبحث الفكري. إنها مزيج يجعل من سيرة الذات سيرة للفكر، وكتابة تجعل من الحكي وعيًا مفكرًا في العلاقة مع الآخر في اختلافه.
لكني إذا كنت أعتبر هذا النص مرجعيًا، فإن نصوصًا أخرى لا تقل أهمية تتجاذب معه هذه القوة. في أول مرة قدمني أحد أصدقائي للمسرحي العالمي الراحل الطيب الصديقي، بأني متخصص في كتابات الخطيبي وصديق له، سألني بنوع من الدهاء المسرحي وسيجاره الكبير بين أصابعه: “في نظرك، أي كتاب للخطيبي يمكن أن يعتبر الأهم؟” لم أتردد في القول: إنه “كتاب الدم”! رنا لي المرحوم الصديقي ببسمة أبوية ارتسمت على شفتيه وتابع نقاشه. كتاب الدم أحد أهم المنجزات الحكائية العربية المكتوبة باللغة الفرنسية. إنها “رواية” من القوة بحيث لم يتنطع أحد من المترجمين والكتاب العرب لترجمتها للغة الضاد، إلا ذلك الفصل اليتيم الذي قام بترجمته صديقه أدونيس، ونشره بمجلة مواقف. بيد أن هذا النص المحجوب عن القارئ العربي، والذي يخلخل بنية الذكورة والأنوثة والثقافي والجسدي والمتعة والفكر لن يمكنه أن يحجب كتابا آخر بعنوان الحمى البيضاء (ترجمه ع. بنعبد العالي بعنوان: النقد المزدوج)، يتصدى فيه الخطيبي بنظرة جديدة لعلاقة الفلسطيني باليهودي ويفكك أسس الصهيونية، انطلاقًا من منظور فكري اختلافي فريد لم نعهده آنذاك في ثقافتنا العربية. وستمكننا إعادة قراءة هذا الكتاب لا شك من النظر إلى علاقتنا باليهود انطلاقًا من الأسطورة الإبراهيمية كما انطلاقًا من أوهام الثقافة الغربية أيضًا.
في الحاجة الماسة إلى نقد مزدوج
حين أصدر عبد الله العروي كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة داعيًا إلى حداثة جديدة، كانت التاريخانية بمنظورها العقلاني الصارم صيغة فكرية تشكل بصورة ما امتدادًا للفكر الماركسي وتطويرًا لممكناته التاريخية والفكرية. غير أن عبد الكبير الخطيبي بالرغم من انتمائه لهذه الحركة سياسيًا في بداياته، ما لبث أن جعل من فكر التفكيك والاختلاف لدى مارتن هايدجر وجاك دريدا منارة جديدة لإدراك مفارقات المجتمع والثقافة العربيين. ومن ثم سجاله القاسي مع عبد الله العروي، واقتراحه المبكر لجدلية جديدة لا تجعل من الغرب أفقا للعالم العربي ومن التاريخ تطورا مطردًا، بقدر ما تدعو إلى نقد مزدوج يمارس نفسه داخل الذات على الآخر وداخل الآخر على الذات.
كانت مطرقة النقد المزدوج لها نفحة نيتشوية لا يمكن أن يخطئها الفكر. لقد كان هدف الخطيبي أولا نقد مفهوم الهوية الذي كان ينبني عليه الفكر العربي منذ عصر النهضة مرورًا بالفكر الماركسي العربي. بيد أن هذا النقد لا يلزم أن يُفهم باعتباره ممارسة سالبة بقدر ما يمتح معناه من معنى كلمة نقد في الفرنسية، اللغة التي بها يكتب، ومن خلالها يصوغ نصوصه: أعني وضع الهوية في مأزق مؤدياتها. هكذا سيدعونا الخطيبي إلى نوع من الفكر اليقظ، المفكر لذاته ولخطابه وهو يحلل الظواهر. ويقظة الفكر هذه هي التي يدعونا من خلالها إلى تفادي السقوط في ما يسميه الهوية العمياء، أي تلك التي تعمى عن رؤية المغاير في ذاتها، وتعتبر نفسها وحدة متراصة وخالصة. الهوية حين تفتقد البصر تنفي الآخر والمتعدد والمغاير وتمارس سلطة الأصل والأصيل. إنها ترتكز على إسلام وحيد وفكر أوحد. في الحين الذي يعتبر الخطيبي أن الإسلام كيان تاريخي ومتعدد، وأن هوامشه اليقظة هي التي تصوغ هويته المنفتحة المتبصرة، كالتصوف والفكر النقدي والفلسفي والفكر التاريخي.
يعلمنا الخطيبي أن وهم الهوية لا يكمن فقط في الرجوع إلى السلف، كما مارسته السلفية وتمارسه اليوم التيارات الإسلاموية بفروعها السياسية والجهادية، وإنما في كل أشكال الاستغراب أيضًا التي لا تعي بشكل عميق علاقتها بالغرب. بيد أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالاختلافية التي تسعى إلى محوها اليوم العولمة، من خلال زمنية كونية، صارت مشكلاً يؤجج وهم الهوية هذا كرد فعل لا كبحث يقظ عن الاختلاف. كما يعلمنا أن الكتابة هي تلك التي تستعصي على المحاكاة، في تميزها وبنيتها وصرحها الشامخ.
يطول النسيان اليوم فكر الخطيبي في الثقافة العربية فيما يسطِّح فكره التناول الأدبي الفرنكفوني بالتركيز على “رواياته” في غيبة مرجعياتها الفلسفية والفكرية، وتحويل متخيله الفكري الحكائي إلى وصفات جاهزة في الدرس الأكاديمي. والحقيقة أن هذا الضرب من النسيان أشد شراسة من سابقه، لأنه يختزل فكر الخطيبي في ما كتبه من نصوص حكائية، صارت منتجعًا للعاجزين عن إدراك مداها الفكري الفلسفي الغربي، بل مداها السوسيولوجي الذي بدأه الخطيبي في الستينيات. وإذا كان الخطيبي يزعج البعض بتعدده المعرفي الذي لا يمكن أن تطوله محدودية فكرهم، فإن الإلمام بتجربته الفكرية (التي تشمل علم الاجتماع والكتابة الحكائية والنقد الفني والأنثربولوجيا الثقافية) يتطلب من المساءلة واليقظة ما لا يمكن أن يتنطع له إلا أشخاص قلة نذروا أنفسهم للتعدد ذاته. إنه أرخبيل لا يمكن أن نمسك به إلا إذا نحن امتلكنا جزائره بكاملها، في الأفق الذي ارتضاه لنفسه، في تعدده وفرشاته، وفي يقظته تجاه الماضي والمستقبل والحاضر، كما في غموضه الذي يسائل فينا حدودنا أيضًا.