حين دخلت السينما الفلسطينية إلى المغرب عبر الأندية السينمائية

أحمد بوغابة (**)

شيء من التاريخ أولا…

ما هي علاقة المشاهد المغربي بالسينما الفلسطينية؟ وكيف كان التعامل معها في بداياتها؟

قبل الإجابة على السؤالين وفهمهما لا بد من الحديث ولو مختصرا عن الإطار العام الذي جعلت المُشاهد المغربي يدخل إلى/أو في الصورة السينمائية الفلسطينية ويتبنى الدفاع عنها والتماهي معها، بل الانصهار فيها واعتبارها قضية شخصية.

لم يكن جيل الاستقلال (استقلال المغرب طبعا) وخاصة مثقفيه وزعماء السياسة الذين كان يُطلق عليهم حينها بالوطنيين، بما فيهم الذين كانوا يدرسون أو يقيمون في الشرق (مصر وسوريا أساسا) (1)، يثيرون القضية الفلسطينية ويلحون عليها وإنما كانت مجرد خلفية لهم فقط لأن تركيزهم كان على تحرير الوطن المحلي وبنائه في ما بعد. لذا لم نكن، نحن الأطفال، نسمع كثيرا عن فلسطين باستثناء الحديث الفضفاض عن هجرة اليهود المغاربة إليها دون أن نفهم مغزاها ومُخططاتها.

لكن، سيتغير ذلك بشكل جذري في أواخر الستينات بمواكبة ممارسة نضالية جذرية لصالح فلسطين، مباشرة بعد هزيمة العرب في يونيو 1967، حيث أصبحت فلسطين منذ ذلك التاريخ المشؤوم جزء من الكيان المغربي عند عامة الناس، خاصة الطبقات الشعبية، لتصبح قضية فلسطين مقدسة عند الجيل الجديد من الشباب الذي كان بعضه من اليساريين الراديكاليين، وهو ما دفع بمجموعة منهم للالتحاق بصفوف المقاومة الفلسطينية وحمل السلاح بعد المجزرة التي تعرضت إليها في الأردن في شهر شتمبر سنة 1970، المعروفة ب”إيلول الأسود” وبعدها، إلى غاية منتصف الثمانينات (2). نذكر على سبيل المثال لا الحصر الأختين الشقيقتين غيثة ونادية برادلي (3) والركراكي النومري والحسين الطنجاوي وعبد الرحمان أمزغار واللائحة طويلة (4)، منهم من استشهد في المعارك على حدود الأراضي المحتلة، ومنهم من استشهد داخلها، ومنهم من قضى سنوات طويلة من الاعتقال في السجون الصهيونية.

لقد وضعت هذه الهزيمة (يونيو 67) القضية الفلسطينية في الصدارة ومركز اهتمامنا فأسرعت بالتالي في إخراجنا من طفولتنا والقفز على مراهقتنا وتجاوزها بِتَشَكُل وعينا الرافض نحن أطفال “الهزائم”.

كان الشعار المركزي لدى اليسار الراديكالي الشباب يتجسد، بالبنط العريض، في كون الثورة الفلسطينية هي رأس الرمح للثورات العربية. فينبغي أن نكون في صفها ومعها وليس وراءها خاصة وأن المغرب كان يعيش حينها وضعا سياسيا استثنائيا، بحكم الطوارئ والاغتيالات السياسة والمحاكمات الصورية، تقابلها الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية حين تبين بالملموس، بعد عقد من الاستقلال، أن الأحلام بمغرب جديد قد أُجهضت وتم اعتقالها بسيادة الحكم المطلق.

كانت هذه الأفكار أكبر من سننا (14 – 16 سنة) لكن حملناها على أكتافنا وفي عقولنا ملتزمين بها إلى أقصى حد لأنها حَوَّلَتْنَا إلى “رجال” حسب اعتقادنا في ذلك الزمن الجميل

جيل جديد إذن بوعي بساري راديكالي يستمده من تجارب عالمية (ثورات أمريكا الجنوبية والهند الصينية والإفريقية أو ما كان يسمى حينها ب “العالم الثالث” التي كانت تنتصر لشعوبها ولنا أيضا حيث كنا نجد فيها ذاتنا)

وانتمى إلى هذا الجيل – جيل السبعينات – مثقفين وفنانين وسينمائيين في منتصف عمرهم (25 – 30 سنة) درسوا بأوروبا (الغربية أو الشرقية) فساهموا بدورهم من خلال مواقعهم في الدفاع عن فلسطين واستحضارها في جميع أنشطتهم وتعبيراتهم الأدبية والفنية، وأطلق الكثير منهم أسماء مواليدهم الجدد في ذلك الزمن، أسماء فلسطينية من شهداء ومثقفين حيث كان اسم “القدس” متداولا للإناث وبعدها “دلال”، تخليدا لدلال المغربي، و”فدوى” للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، واسم “غسان” للذكور تكريما لغسان كنفاني، وغيرها من الأسماء الفلسطينية. فقد حملوا إلينا فلسطين وغرسوها فينا، فحولنا الخريطة العربية من المحيط إلى الخليج لهوية واحدة وهي فلسطين.

دخول السينما الفلسطينية…

هذه مقدمة مختزلة جدا لكي نفسر سبب جعل نضال الشعب الفلسطيني قضية محورية في التفكير والفعل لدينا حتى ندخل إلى عالم السينما كموضوع لهذا النص ونفهم حيثياته. لم تكن السينما الفلسطينية موجودة أصلا حتى نتأثر بها على غرار السينمات الأخرى. اكتشفنا السينما الفلسطينية شيئا فشيئا بفضل “الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب” كجمعية ثقافية فنية في التعريف بهذه السينما التي كنا نجهل وجودها. لذا سأركز عليها مادامت هي الأصل، وهي جمعية ظهرت بدورها في سن العنفوان الشبابي الذي جعل من ثقافة السينما سلاحا له للنضال. كثير من مؤسسيها ومسؤوليها ومنخرطيها كانوا من قبل في فرع المغرب لـ”فيدرالية الأندية السينمائية الفرنسية”. فبعد نضالهم ضد خطها الثقافي العام، منذ التحاقهم بها في منتصف الستينات، ثم محاولة مغربتها واستقلالها من “المركز الفرنسي” في أواخر نفس العقد حيث كان صراع الأفكار والتوجهات في قمته باستثناء بعض الفرنسيين الذين كانوا بدورهم من اليسار الفرنسي ويؤازرون المغاربة. لكن دون جدوى، فقرر معظم المغاربة الانسحاب منها وكان في مقدمتهم الأستاذ نور الدين الصايل الذي لم يتجاوز عمره 22 سنة حينها (5). وتشاء الصدفة، في نفس الفترة، انسحاب أيضا مجموعة كبيرة جدا من الشباب من الحزبين التقليديين اللذين كانا في “المعارضة الرسمية” لتأسيس ثلاثة تنظيمات يسارية راديكالية سرية (6). وكان الأستاذ نور الدين الصايل قد أصدر مجلته “سينما 3” سنة 1970 (إحالة إلى السينما الثالثة المستقلة عن الشمال، غربه وشرقه. وهو اتجاه كان يتبلور حينها في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وبعض الأقطار الأسيوية).

سلطت مجلة “سينما 3” منذ ظهورها الضوء على الصورة الفلسطينية، للأسف لم تعمر المجلة طويلا. كما لعب الأستاذ نور الدين الصايل دورا مركزيا في تأسيس “الجامعية المغربية للأندية السينمائية” كجمعية مغربية روحا ومضمونا وتوجها، بداية سنة 1973، والتي التحق بها جل اليساريين الشباب من خلال تأسيس أندية سينمائية في مدنهم كواجهة نضالية لتصبح هذه الجمعية أقوى من الأحزاب نفسها بضمها آلاف المنخرطين عبر التراب الوطني في أنشطة أسبوعية من خلال عروض الأفلام ومناقشتها. أفلام لم تكن تعرضها القاعات التجارية بادعاء أنها “غير جماهيرية”. كان الحد الأدنى هو 8.000 منخرط سنويا، وقد يتجاوز ذلك بكثير، في بعض السنوات، إلى أكثر من 12.000 ضمن 50/60 ناديا في جميع المدن المغربية الكبيرة وحتى المدن الصغيرة النائية. بعضها كانت تضطر لتنظيم عرضين في الأسبوع بسبب عدد المنخرطين المرتفع لديها. أصبحت “الجامعة الوطنية للأندية السينمائية” قوة ملموسة ومحسوسة في النضال الثقافي لا تضاهيه فيه جهة ما. أتحدث هنا عن سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

ومن الطبيعي جدا أن تكون القضية الفلسطينية من اهتمامات الأندية السينمائية ورئيسها الأستاذ نور الدين الصايل الذي احتك مباشرة بالفلسطينيين ومثقفيهم وفنانيهم خلال إقامته لمدة سنة (1971) بلبنان في إطار اشتغاله مع اليونيسكو هناك. إلا أن المشكل الذي كان يطرح نفسه هو غياب الإنتاج السينمائي الفلسطيني، فتلتجئ “الجامعة الوطنية للأندية السينمائية” للأفلام الأجنبية حول القضية الفلسطينية والمتعاطفة معها أو التي تتبناها مثل فيلم “هنا وهناك” للمخرج جان لوك غودار، أو الأفلام العربية المتميزة حينها مثل “كفر قاسم” للمخرج اللبناني برهان علويه، وفيلم “المخدوعون” للمخرج المصري توفيق صالح. وهي الأفلام التي تم عرضها مرارا في الأندية في غياب البديل لها إلا لماما حين تتوفر أفلام من أوروبا الشرقية أساسا. وحمل أحد الأندية في تلك الفترة اسم “نادي هاني جوهرية” بعد استشهاده.

تعاظم تعاطف المغاربة مع القضية الفلسطينية أكثر خلال الحرب الأهلية اللبنانية وخاصة بعد مذبحة صبرا وشتيلا وخروج الفلسطينيين من بيروت سنة 1982 لتحصل قفزة نوعية للتعامل السينمائي لـ”لجامعة الوطنية للأندية السينمائية” مع “القضية الفلسطينية “، ابتداء من سنة 1983. تطوير العمل أكثر من عروض قليلة جدا لنفس الأفلام المذكورة أعلاه خلال فترات متباعدة إلى تنظيم أسبوع سينمائي خاص بفلسطين وحدها (كموضوع مركزي موحد) يتجول مجمل المدن التي تحتضن الأندية السينمائية في نفس الفترة تقريبا مما يخلق الحدث على المستوى الإعلامي والثقافي وطبعا السياسي النضالي. ولم يكن مقتصرا على المنخرطين فقط بل بالضرورة أن يكون مفتوحا في وجه الجماهير الشعبية عامة ومختلف الفعاليات السياسية والنقابية والثقافية من جهة، ومن جهة أخرى تخصيص بطائق مستقلة للمناسبة يتم بيعها بثمن رمزي (10 دراهم في تلك السنوات)، وعلى المنخرطين أيضا المساهمة بها على أساس أن تذهب جميع مداخيلها إلى منظمة التحرير الفلسطينية (7). وأيضا جعل من هذه المناسبة احتفالا بفلسطين كحركة نضالية تضامنية واحتجاجية في آن واحد لصالح القضية، كموقف سياسي واضح وجواب على الجهات العربية والأوروبية والأمريكية التي كانت تسعى لتهديم وتحطيم وتشتيت وإبادة منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للفلسطينيين لذا تقرر التعامل مع مكتبها في الرباط والتنسيق معه في تنظيم هذه التظاهرة كتقليد جديد في المغرب وفي الجمعيات الثقافية.

البطاقة الخاصة بالأيام السينمائية الفلسطينية

وهكذا تم تنظيم الدورة الأولى سنة 1983 بتنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية من خلال مكتبها بالرباط وبإيعاز المسؤولين الأساسيين فيه، وأيضا بمساعدة فعالة للأستاذة ليلى شهيد التي لها وزنها السياسي والثقافي والديبلوماسي ضمن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. وتجدر الإشارة أن المناضلة ليلى شهيد مرتبطة وجدانيا وروحيا بالمغرب الذي كانت تقطنه بحكم زواجها بالكاتب والروائي المغربي محمد برادة، الرئيس الأسبق لاتحاد كتاب المغرب (من 1976 إلى 1983).

وكما قلنا سالفا، في بداية هذا النص، أن فلسطين هي في قلب المغاربة لذلك نجحت الأيام السينمائية الفلسطينية التي حجت إليها مختلف شرائح المجتمع، ومن مختلف الأعمار، تغص بهم القاعات في جميع المدن، كتعبير على تضامنهم، ومنهم من كان قد قاطع القاعات السينمائية بسبب تدهور حالتها وغياب برمجة جيدة. كانت هذه الأيام مناسبة أيضا لشراء بعض السلع الفلسطينية المعروضة في بهو القاعات كالكوفيات وأشرطة الأغاني والأناشيد والكتب والمجلات والأعلام واليوميات إلخ… تعبيرا على تضامن رمزي من لدن الجمهور الحاضر.

وكانت السلطة المغربية قد فرضت ضريبة على السجائر وتذاكر القاعات السينمائية والعروض المسرحية التي يتم استخلاصها من طرف وزارة المالية سُمِيَتْ بـ “ضريبة التضامن الفلسطيني” دون أن يتساءل الناس هل تذهب فعلا إلى فلسطين أم لا؟ لأن الجماهير قَبِلَتْها عن طواعية بما أنها لفلسطين، كل شيء مجاز ومسموح به إذا كان لصالح فلسطين.

وطبعا كانت القاعات تعرف، خلال أسابع السينما الفلسطينية، حماسا، مرفوقا بالأناشيد الفلسطينية، تتخللها شعارات لصالح فلسطين وضد الصهيونية والإمبريالية في انتظار عرض الأفلام ومناقشتها. ومن الأفلام المعروضة في الدورة الأولى: “سجل شعب” (قيس الزبيدي)، “كلنا للوطن” (مارون بغدادي)، “الهوية الفلسطينية” (قاسم حول)، “تحت الأنقاض” (جان شمعون ومي المصري)، “لماذا؟” (مونيكا ماوور)، “على أرضنا” (أنطونيا كاجيا)، وأفلام أخرى قصيرة من إنتاج الأمم المتحدة أو الاتحاد السوفياتي.

وأشير أن برمجة الأفلام من اقتراح منظمة التحرير الفلسطينية بينما تتكفل الجامعة الوطنية وأنديتها بالتنظيم والتنسيق مع باقي الأندية في مختلف المدن. يمكن الجزم بنجاح هذه الدورة التأسيسية وتبنيها من طرف جميع الأندية فصادقت عليها في جمعها العام (دجنبر سنة 1983) والتوصية بتكرارها، فكانت الدورة الثانية في السنة الموالية (1984) التي تم استقبالها أيضا بحماس كبير إلا أنه تباينت بعض الآراء بين جزء من الأندية وجامعتها وداخل بعض الأندية نفسها جراء برمجة فيلم “يوميات حملة” للمخرج الإسرائيلي أموس غيتاي. لقد اعترضت عليه بعضها باعتباره فيلما إسرائيليا وليس فلسطينيا. كان المكتب الجامعي مضطرا لأن يشرح بالتفصيل أن البرمجة من وضع منظمة التحرير وهي أعلم بشعابها، ومن الأفضل مناقشة الفيلم عوض سحبه من البرنامج. رفضت بعض الأندية برمجته ضمن الحصة المخصصة لها فيما تأجج النقاش في الأندية التي عرضته ولا داعي للتفصيل في طبيعة تلك النقاشات في تلك المرحلة التاريخية والمجرى الذي يأخذه في أحيان كثيرة. بل عرف ناديا، في إحدى المدن، انشقاقا في مكتبه إلى ناديين وتبادل التهم فيما بينهما، خاصة وان النقاشات تأخذ أحيانا منحى صراعات حادة وعميقة وعنيفة بين المنخرطين، وكل طرف يدعي أنه المدافع الفعلي على القضية الفلسطينية ومعه الحق. تلك الصراعات كانت – في الحقيقة – صدى لمختلف الاتجاهات الفلسطينية. قد تجد في ناد مَنْ هُمْ مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) وآخرين مع الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين (نايف حواتمة) وعامة الناس مع “فتح” لأنها هي المعروفة لديهم ولم يسمعوا بـ”الجبهات الأخرى”…

وكان كثير من المسنين، الذين يمكثون في القاعة لمتابعة النقاشات، لا يفهمون محتوى تلك الصراعات وخباياها بين المغاربة ويستغربون لها. توجد قضية واحدة فقط بالنسبة لهم هي فلسطين ومعها ياسر عرفات وبس… وما كان يزيد في تأجيج النقاشات عادة “من وراء الستار” هُمْ الطلبة الفلسطينيون المقيمون بالمغرب بانتماءاتهم التنظيمية المختلفة والمزايدة فيما بينهم، فتنعكس سلبا على بعض الشباب. كان هذا النشاط السينمائي يتحول إلى حلبة سياسية، وبالتالي كانت السلطات الرسمية تدرك ذلك بفضل مخبريها المندسين فتنزل بكل ثقل قواتها القمعية المختلفة التي تتربض أمام القاعات السينمائية وَحَوْلَهَا وجميع الطرق المؤدية إليها وكأننا في حالة الطوارئ تحسبا لخروج مظاهرات من داخل القاعات. وإن كان جمهور بعض الأندية في بعض المدن قد حاولوا ذلك لكنهم يكتفون لدقائق معدودة بترديد الشعارات أمام باب القاعة السينمائية دون أن تتجاوزها.

السينما واجهة للنضال أيضا…

لم تكن هذه التظاهرة السينمائية تمر دون مناوشات من طرف السلطات في بعض المدن خاصة النائية منها والبعيدة عن المركز المحوري، حيث السلطة في هذه الأخيرة تترك “هامشا من الحرية المحروسة” وتحاول أن تركب عليها أحيانا بأنها متضامنة أيضا، و”تساهم” في تنظيم السير ومنع وقوف السيارات أمام القاعة لكي لا تزعج الجمهور الغفير والاحتفال الفلسطيني في المغرب، بينما هناك بعيدا يرفض بعض المسؤولين تسليم الرخصة لتنظيم التظاهرة، أو الضغط على صاحب القاعة بعدم تأجيرها للنادي السينمائي كأسلوب ملتوِ للمنع، أو “خلق” و”ابتكار” موانع أخرى كثيرة يصعب ذكرها في هذا النص المقتضب. علما أن جميع الأفلام تحصل على “فيزا” العرض من المؤسسة الوصية على السينما وهي المركز السينمائي المغربي. وعليه، غالبا ما كان يتدخل مكتب الرباط لمنظمة التحرير الفلسطينية للمساعدة في حلها وتطمين المسؤولين فيها بكون التظاهرة هي فنية محضة.

ومن بين الخرجات الغريبة التي اعتبرتها الأندية عبثية وأنها نُكتا واقعية مثل ما وقع في إحدى المدن باستدعاء رئيس النادي واستفساره عن فحوى الملصق الذي يتضمن “بندقية بعلبتين للفيلم” والذي اعتبره المسؤول أن النادي يدعو للثورة المسلحة في المنطقة (وهذه الحساسية هي نتيجة أن تلك المنطقة كانت قد عرفت حمل السلاح للاحتجاج في بداية السبعينات). حاول رئيس النادي إقناع المسؤول أنه اختيار فلسطيني كشعار رمزي من كون السينما هي أيضا سلاح نضالي، وان نفس الملصق موجود في جميع المدن المغربية المحتضنة للأيام السينمائية الفلسطينية وبتنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية. سمح له المسؤول بتنظيم العروض السينمائية في القاعة ولكن طالبه بسحب الملصقات من الشوارع العامة. فوجئ المسؤول بالنادي حين خرج من الإدارة بأن الملصقات قد اختفت من واجهات المقاهي والمتاجر التي أُلصقت بها وتم تمزيق تلك التي كانت على الجدران.

الملصق الذي أدى لمساءلة أحد مسؤولي النادي السينمائي عن شعاره الثوري

يمكن استحضار أيضا تجربة أحد الأندية الذي وجد بعض أعضائه أنفسهم معتقلين لمدة نصف يوم لأنهم كانوا يتجولون على بعض مكاتب المحامين والأطباء لبيع البطائق التضامنية لهذا الأسبوع السينمائي الفلسطيني حيث تساهم هذه الفئات عادة بقيمة مالية محترمة للتضامن، أو في بعض المؤسسات البنكية والتعليمية التي يشترونها لتوزيعها على موظفيهم والذي اعتُبِر في قاموس السلطة خروج عن القانون…. وهكذا من المشاكل الصغيرة لمحاصرة أنشطة الأندية الأكثر نشاطا إلى جانب فُرق مسرح الهواة التي كانت بدورها فضاء لليسار وكثير منهم منخرطين في الأندية السينمائية. وكان هؤلاء الأعضاء فخورين بما يقومون به ويعتبرونه لا يساوي شيئا أمام عظمة نضال الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل وأذنابها العرب وحاميتها الإمبريالية الأمريكية فيزدادون حماسا ومستعدين للاعتقال حتى… من أجل فلسطين، لا شيء يعلو فوق فلسطين، بالروح بالدم نفديك يا فلسطين.. آه يا فلسطين…

كانت الأندية السينمائية إذن مشتلا لنضال الشباب وتنزعج السلطة منها فتحضر قوات “الأمن” أحيانا قرب القاعات التي تتم فيها العروض خلال الأنشطة العادية. فما بالكم حين تحج الجماهير الغفيرة لمشاهدة فلسطين على الشاشة لا تعلم نهايتها خاصة حين تكون الأجواء الاجتماعية مضطربة بسبب الإضرابات كرد فعل على ارتفاع مواد العيش الأساسية، أو حين تكون هناك اعتقالات في صفوف الطلبة والتلاميذ لأن بعض الأندية كانت بمثابة خلايا لليسار الراديكالي الذي لم يكن حينها يفصل بين النضال الوطني المحض والنضال العربي والفلسطيني (8).

وعلى إثر النقاش الحاد الذي أثاره فيلم “يوميات حملة” لأموس غيتاي والاعتراض عليه، والذي بدأ بين الأندية والمكتب المركزي للجامعة الوطنية للأندية السينمائية، وفيما بينها، وكذا مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية الذين اختاروا هذا الفيلم وبرمجته في تظاهرة فلسطينية وهو ما اعتبره البعض إخلالا بالقضية وخيانة لها وللشهداء. فقد تم التفكير، خلال الإعداد للدورة الثالثة، في تنظيم ندوة وطنية تأطيرية بمدينة الرباط والتي انعقدت فعلا خلال ثلاثة أيام (من 21 إلى 23 يونيو 1985) حضرها ممثلون عن جميع الأندية بالمغرب، ودعوة نقاد وسينمائيين عرب وفلسطينيين من بينهم المخرج ميشيل خليفي وعرض فيلمه “عرس الجليل” لمناقشة السينما الفلسطينية من مختلف جوانبها التاريخية والإنتاجية وأيضا سينما العدو (الصهيونية والمدعمين لها في أوروبا وهوليوود)، وكيف التعامل مع السينما التي تساند القضية الفلسطينية من داخل المجتمع الإسرائيلي؟ ويمكن القول بأن فكرة دعوة ميشيل خليفي الذي هو من فلسطينيين الداخل كما يسمونهم، أو فلسطينيي 48، فكرة ذكية جدا حيث ساعد وجوده في ترطيب الأجواء ومناقشة الموضوع من مختلف جوانبه.

عرس الجليل – ميشيل خليفي (1987)

عادة ما يطغى على النقاش الجانب السياسي والإيديولوجي وتكون القضية الفلسطينية “معبرا” لنقد الأنظمة العربية بما فيها النظام المحلي وبذلك يبتعد عن جوهر السينما بوعي كامل ومسؤول باعتبار أن اللحظة هي سياسية ونضالية وليست فنية، وأن الفن ينبغي أن يخدم قضايا الجماهير والدفاع عنها، وأن الفن غير الملتزم بحياة الناس ضد القمع والاستغلال هو فن بورجوازي/ تجاري. ويطرح البعض الآخر ضرورة العمل على المشاركة في إنتاج الأفلام الفلسطينية ومطالبة السينمائيين المغاربة بإنجاز أفلام عن فلسطين (9).

توقفت هذه التظاهرة السينمائية الفلسطينية المُنظمة من طرف الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بتنسيق مع مكتب الرباط لمنظمة التحرير الفلسطينية وهي في قمة نجاحها. توقفت لدواعي سياسية محضة أملتها لحظة الأزمة خارج إرادة الجهات المنظمة لتغيب بعد ذلك نهائيا.

يرجع السبب إلى خطاب الحسن الثاني الذي ألقاه بعد انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر سنة 1987 وحضره زعيم جبهة البوليساريو الراحل محمد ولد عبد العزيز الذي كان جالسا في المنصة الرئيسية كضيف أساسي ثم ألقى كلمة رسمية حيث شبه فيها المغاربة بالصهاينة مستغلا استقبال الراحل الحسن الثاني شيمون بيريس قبل ذلك بسنة (1986) في مدينة إفران (وسط المغرب) فمنع الحسن الثاني على إثر ذلك أي تعامل مع الفلسطينيين الذين سمحوا لزعيم البوليساريو بإهانة المغاربة قائلا في خطاب رسمي تم بثه تلفزيونيا وإذاعيا: “ولقد أصدرنا أمرنا الى جميع ممثلينا ، كانوا رسميين أو غير رسميين، يمثلون الأحزاب السياسية أو الهيئات الأخرى، أنهم اذا حضروا أي حفل دولي وقام أي فلسطيني يتكلم عن فلسطين أن يغادروا مكان الاجتماع، وأقول، ولا أريد التهديد، ولكن أنا ضمير المغاربة، فإذا قام فلسطيني يتكلم عن فلسطين وبقي أي مغربي جالسا فانه، انتقاما لروح شهدائنا الذين مثلوا بالصهاينة، سيلطخ باب داره بذاك الشي اللي ماكيتذكرش (يعني لا يُقال ولا يُذكر)، وأقول لو أعتبر هذا دكتاتورية، فأنا في هذا الباب دكتاتوري، فشرف المغاربة يقتضي الدكتاتورية”. التزم المغاربة مباشرة بمقاطعة الفلسطينيين داخل المغرب وخارجه باستثناء التيارات اليسارية الراديكالية التي خرج طلبتها في الجامعات بمظاهرات جابهتا القوات المغربية بالرصاص ذهب ضحيتها طالبين في جامعة فاس.

لم يكن من الممكن لأصحاب القاعات في هذه الأجواء السماح للأندية بعرض أفلام فلسطينية، كما أن مكتب الرباط لمنظمة التحرير الفلسطينية اختار الانزواء داخل مقره في انتظار مرور الزوبعة وبالتالي توقفت التظاهرة السينمائية.

عرفت الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب انتكاسة في التسعينات من القرن الماضي لأسباب كثيرة – ذاتية أساسا – التي نخرتها من الداخل لتتحول إلى هيكل مريض فقد بريقه وطلائعيته وخفت صوته، لن نتطرق لهذا الموضوع لأنه لا يرتبط بصلة مباشرة بموضوعنا حول السينما الفلسطينية

وبحكم الفراغ بغيابها التام من الساحة رغم أن البعض مازال متشبثا بوهم هُمْ سبب الدمار وفي ذات الوقت ساهموا في زرع طفيليات جديدة تصف نفسها بـ “مهرجانات” التي لا تتوفر فيها الحد الأدنى لهذه الصفة، بل يمكن الجزم بكونها – أي تلك المهرجانات – تسببت في تمييع الثقافة السينمائية لصالح الرداءة والبهرجة والاحتفالات المزورة وخدمة الوصوليين فقط على حساب فن السينما. ونستثني مهرجانات قليلة جدا تُعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة ومنها من هذه الخمسة من تعتني حقا بالفيلم الفلسطيني الجيد عند ظهوره في الساحة وبأصحابه من السينمائيين الفلسطينيين وهو مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط (شمال المغرب)، المهرجان الذي مازال يرفض لحد الساعة إدراج أفلام إسرائيلية في برامجه مهما كان مصدرها رغم الإغراءات الكثيرة التي صمد ضدها أزيد من 3 عقود، ولم يقبل أبدا أولئك الذين يقولون فصل الفن عن السياسة.

المخرج بوغالب بوريكي في حديث مع الناقد أحمد بوغابة

كلمة أخيرة…

مازال الفيلم الفلسطيني مُرحب به في المغرب لكن لا يوجد إجماع حوله إذ منه من يتعرض للنقد خاصة الأفلام التي تدعمها مؤسسات غربية مشكوك في سياستها (وحتى إسرائيلية) التي يرى فيها البعض تنازلا سياسيا أو تطبيعا ملتويا لأن المنتج/المدعم يعمل على تقليص النقد الموجه لإسرائيل. فقد تغيرت كثيرا نظرة المشاهد الشاب (مواليد الألفية الثالثة) للفيلم الفلسطيني ويحاكمه بنفس مقاييس السينما العالمية التي يستهلكها بكثرة، فهو ليس لديه حنين نضالي مع القضية… كوالده، وهذا هو أيضا يستحق موضوعا مستقلا.

الهوامش:

(*) تم نشر هذا النص قبل أسبوعين في كتاب جماعي بعنوان “الدراما العربية في السينما الفلسطينية” ضمن فعاليات مهرجان القدس السينمائي في دورته الخامسة (29 نوفمبر – 6 دجنبر 2020)

(**) أحمد بوغابة: صحفي وناقد سينمائي ومترجم

(1) ومنهم من عاش في الشرق إبان ما سُمي بـ “النكبة” سنة 1948، والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.

(2) كما عرفت جل المدن المغربية مظاهرات طيلة شهر يونيو 1967 خاضها الطلبة والتلاميذ لصالح فلسطين. ثم جاءت خلاصات المؤتمر 13 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي عقد في شهر غشت من سنة 1969 بكون “القضية الفلسطينية قضية وطنية” طبعت خطه النضالي إلى أن تم منعه يوم 23 يناير 1973. وتأسست بالمغرب في سنة 1968 جمعية، تعاطفنا معها في بدايتها، وهي “الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني”، ناضلت عقودا قبل أن تأخذ منحى آخر في التسعينات من القرن الماضي، وهذا موضوع آخر لا مجال للخوض فيه الآن.

(3) كانت للشقيقتين غيثة ونادية برادلي أصدقاء كثر من فلسطين، في المغرب وخلال إقامتهما الدراسية في فرنسا، فضلا عن نضالهما مع الشباب الفرنسي ومشاركتهما في انتفاضة مايو 68 الشهيرة مما عمق التزامهما بالقضية. وانطلاقا من اقتناعهما النضالي هذا، قررتا سنة 1971 الذهاب إلى تل أبيب بحكم أنهما تحملان الجنسية الفرنسية (من جهة الأم)، ونظرا لملامحهما القريبة من الأوروبيات مما سيسهل مرورهما، لكن تم اعتقالهما في “إسرائيل” قبل تنفيذ العمليات التي كانت مقررة في 9 فنادق بمناسبة زيارة وفد أمريكي كبير من البينتاغون والمخابرات. مكثتا في السجن سنوات طويلة قبل إطلاق نادية في الأول ثم غيتة بعدها بتدخل من الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران تحت ضغط المجتمع الديموقراطي الفرنسي.

(4) كثير من المتطوعين المغاربة (والشهداء منهم) مجهولة أسماءهم لحد الساعة لأن بعضهم ذهب بشكل سري عبر عواصم عربية أو أوروبية مختلفة. لا توجد أرقام مضبوطة حولهم.

(5) نور الدين الصايل هو الأب الروحي للنقد السينمائي المغربي والذي يرجع له الفضل في خلق ثقافة سينمائية مغربية بين الشباب من خلال مجلته “سينما 3” وكتاباته صحافية (بالعربية والفرنسية) وبرامجه الإذاعية والتلفزيونية ثم إدارته لبرامج القناة الأولى التي أصبحت مقبولة عند المغاربة، وسنوات مهمة بالقناة الفرنسية “كنال بلوس” في باريس، وبعدها أدار القناة الثانية المغربية والمركز السينمائي المغربي حيث ترك بصماته منحوتة أبديا بالإبداع والرقي والتطور فيها جميعا، وطبعا هو مؤسس الجامعة الوطنية للأندية السينمائية. مرجع سينمائي مهم بثقافته الواسعة للفن السابع. له كتابات كثيرة مهمة حول السينما الفلسطينية منذ سنة 1970 إلى غاية منتصف الثمانينات قبل أن “تبلعه” المهام الإدارية في المؤسسات المذكورة

(6) وهي “إلى الأمام” و”23 مارس” و”لنخدم الشعب” التي انتهت تجربتها سنة 1976 بالاعتقالات والمحاكمات.

(7) كان ولوج أنشطة الأندية الأسبوعية وحضورها والمساهمة في نقاشاتها واجتماعاتها العامة، واقتراح أيضا برامج والمساهمة في النشرات بالكتابة إذا رغب ذلك، والحق في نقد المسيرين والمسؤولين على النادي علنيا / جماهيريا، والترشح للمكتب المحلي للنادي بعد سنتين من المواظبة والتي قد تؤهله كذلك الترشيح للمكتب المركزي للجامعة الوطنية كأعلى هيئة تقريرية لقرارات الجموع العامة. يتطلب هذا كله أن يكون الشخص منخرطا ويؤدي واجبا سنويا بانتظام حيث تُسلم له بطاقة باسمه الشخصي صالحة لمدة سنة تتجدد سنويا طبعا. لكن الأسابيع الفلسطينية فلها بطاقتها الخاصة لأن مداخيلها تذهب كلها إلى منظمة التحرير الفلسطينية

(8) عرف المغرب ثلاث انتفاضات في عقد واحد (1981-1984-1990) عرفت ضحايا من موتى ومعتقلين ومَنْ تم إعاقته أبديا) دون نسيان انتفاضة الريف سنة 1959 وبالدار البيضاء 1965 فضلا عن أخرى متفرقة هنا وهناك. آخرها في منطقة الريف – شمال المغرب – سنة 2016.

(9) اهتمام مباشر من لدن السينمائيين المغاربة بفلسطين على مستوى إنتاج الصورة وليس الخطاب الفكري فقط قد بدأ بدوره مع مطلع الثمانينات بعد خروج الفلسطينيين من لبنان ومجزرة صبرا وشتيلا. ظهرت أفلام كثيرة، منها مَنْ هي ناجحة على جميع المستويات الفنية والفكرية وأخرى سطحية. كما لم تفلح بعض الأفلام من الظهور مثل فيلم “مذكرات منفى” للمخرج الراحل محمد الركاب، وفيلم “خيط أبيص، خط أسود” للمخرج بوغالب بوريكي الذي حاول أن يجمع فيه ممثلين من مختلف الأقطار العربية، (لهذا الفيلم حكاية غريبة حقا تدخلت فيها أطراف كثيرة بما فيها أطراف فلسطينية لتخنقه). كما ظهر في العقد الأخير مجموعة من الأفلام المغربية حول اليهود المغاربة ولهذه “الاختيارات” مغزى يمكن أن تٌحكى في فصل آخر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X