مهرجان “الجاز في شالة”: جسر موسيقي للحوار والتبادل الفني

سعيدة شريف ونزار الفراوي

إيقاعات تسافر عبر ضفتي المتوسط ومشاريع فنية مشتركة تتلاقح فيها الخبرات والتجارب بين موسيقيين يقدمون نموذجا حيا لفضيلة الانفتاح، وفنانون متمرسون وشباب يستثمرون على نحو أفضل تلك النوافذ المطلة على العالم، التي تمهد لهم طرق الارتقاء من المحلية إلى العالمية.

هي عناوين لمكاسب ملموسة تحققت على منصات مهرجان “الجاز في شالة” وداخل كواليس علاقاته الإنسانية وورشاته الفنية. فلسفة إقامة الجسور بين الأنا والآخر، وتوفير فضاء الحوار بين المرجعيات الثقافية والحضارية الكامنة خلف التعبير الموسيقي، جسدها مكان المهرجان نفسه، الذي بدأ سنة 1996 في قصبة “الأوداية”، الحي الموريسكي الذي استقبل هجرات الأندلسيين، بموقعه على الأطلسي ونهر أبي رقراق، واستقر في “شالة”، المدينة الأثرية الرومانية التي تحكي قصة العراقة والتعاقب الحضاري على الرباط خصوصا، والمغرب بوجه عام.

في بلد معروف بتفتح شبيبته على مختلف الألوان الموسيقية المحلية والشرقية والغربية، تمثل هدف المهرجان المنظم من قبل مندوبية الاتحاد الأوروبي بالرباط، بشراكة مع وزارة الثقافة، في التعريف بالجاز الأوروبي لدى الجمهور والنخب الفنية المغربية، وفي نفس الوقت تثمين الموسيقى المغربية بمختلف أنماطها، من خلال واجهة حية للتلاقح بين الموسيقى المغربية والجاز الأوروبي.

أفق الحوار والإنصات المتبادل بدا جليا منذ الهيكلة المؤسساتية لهذه التظاهرة التي اعتمدت إدارة فنية مزدوجة، بمدير فني أوروبي يسهر على البرمجة الأوروبية وآخر مغربي يؤطر المشاركة المغربية، اختارا تغيير برمجته من شهر يونيو ويوليوز من كل سنة إلى شهر شتنبر، بعيدا عن أجندات المهرجانات الفنية المزدحمة في تلك الفترة، ليكون بذلك مفتتح الأنشطة الفنية بالمغرب وإيذانا بانطلاق الموسم الفني والدخول الثقافي بالمغرب.

عبر السنوات برزت العديد من اللقاءات التي تفتقت في الرباط قبل أن تسافر إلى الخارج للقاء جماهير مغايرة بمرجعية فنية مختلفة. ومما يجدر التنبيه إليه أن الإضافة النوعية للمهرجان تزداد في سياق تقاليد مغربية وعربية يتسيد فيها الغناء المنصة على حساب الموسيقى، بينما يراهن المهرجان على تثمين الأداء الموسيقي أساسا، وهو ما أتاح الاستمتاع بالقدرات الإبداعية لموسيقيين معروفين من قبيل عازف العود الراحل سعيد الشرايبي وعازف الناي رشيد زروال وغيرهما، وعازف العود إدريس المالومي.

تلاقح الشرق والغرب

يجدر التوقف عند تجربة الملحن وعازف القانون الشهير، الراحل صالح الشرقي، الذي انخرط في تجربة مشتركة مع عازف القيثارة الفرنسي الغجري بيدرو سولير، المعروف في عالم الفلامينكو، وبينيات اتشياري، المغني الباسكي فرنسي. انطلقت القصة في قصبة الأوداية وحققت نجاحا مبهرا في جولات خارجية، على غرار مهرجان “بيربينيان” ومهرجان “ايتساتسو” في بلاد الباسك.

كان المشروع مهيئا نحو محطات جديدة تشمل تسجيل ألبوم يخلد لهذا التمازج الفني بين آلة شرقية أصيلة وإيقاعات غربية، لكن وفاة صالح الشرقي أوقف الحلم، الذي تناسل في تجارب أخرى لمخضرمين وشباب على السواء.

مغامرة مماثلة خاضتها فرقة عيساوة المغربية حينما التقت مع عازف البيان البلجيكي “شارل لوس” وعازف الكلارينيت “أندريه دوني” سنة 1997، ونتج عن هذا التعاون الفني تسجيل أسطوانة صدرت في بلجيكا بعنوان “شعور متبادل”.

كما تعانقت الإيقاعات المرتجلة في الرباط لعازف الناي المعروف رشيد زروال، مع المجموعة الألمانية باتا ماسترس عام 2002، وأثمرت سفرا فنيا في الاتجاه الآخر نحو ألمانيا، حيث تم تسجيل ألبوم “باتا ماروك”. والشيء نفسه حدث حينما التقى الفنان علي العلوي وفرقة “طوم دجونسون شارك” أصدروا ألبوما وقاموا بدورة موسيقية بعد الحفل الذي قدموه سنة 2010. وخالد الكوهن الذي اكتشفه الجمهور سنة 2010 تعاون مع “ماتيلد رونو” و”جوناس كنوتسوسن” لإصدار ألبوم بأوروبا.

جسر موسيقي عابر للمتوسط

تعاقبت الأسماء التي أرست جسرا موسيقيا عابرا للمتوسط، لتشمل المدير الفني المغربي للمهرجان، مجيد بقاس، الذي يراكم تجربة طويلة في الدفع بالتراث الكناوي، ذي المرجعية الزنجية، إلى محاورة إيقاعات الجاز والبلوز وغيرها. بدأت القصة حين شاهده عازف البيانو الألماني جواكيم كون في ألمانيا عام 2003. سنة بعد ذلك، تجدد في الرباط اللقاء الذي انضم إليه عازف الباتري الإسباني رامون لوبيز، ليتشكل ثلاثي مازال مستمرا حتى اليوم، بعد أن أثمر تسجيل خمسة أقراص وجائزتين موسيقيتين، وسلسلة جولات عبر مختلف أنحاء العالم.

مجيد بقاس

مجيد بقاس فنان مسافر بامتياز، في الموسيقى والجغرافيا على حد سواء. تجربته الأخيرة نقلت إيقاعات كناوة الدافئة إلى جليد اسكندنافيا، وتطورت إلى إصدار قرص سنة 2020 خرج من أحد أكبر شركات الإنتاج الموسيقي في ألمانيا، تحت عنوان “ماجيك سبيريت كوارتيت”.

تمخض الرباعي، الذي جمع المغرب بجنسيات سويدية دنماركية، نتيجة لقاء إنساني في شالة. كل عنصر كان ينتمي إلى مجموعة مستقلة، لكن نداء إنسانيا حميما حرضهم على ركوب قطار رحلة فريدة أفرزت مشروعا موسيقيا عانق الجمهور في مهرجان “الجاز تحت الأركانة” بالصويرة، وقبلها في مهرجان “الجاز في شالة”، قبل أن يحط الرحال في جولات عبر السويد والدنمارك.

يفتخر بقاس بنجاح هذا المشروع الفني الثقافي الإنساني الذي قوبل بترحيب نقدي وجماهيري كبير، عكسه تحرير أكثر من مائة مقال عبر العالم في منابر إعلامية رفيعة.

نجاح هذه التجارب ليس ارتجالا مطلقا، يرى مجيد بفاس أن الانفتاح الموسيقي هو ضمان نجاح مشاريع المزج فضلا عن المعرفة العميقة بالتجارب الموسيقية الكونية.

أكثر من مشروع فني، يفتح التلاقح والمزج الموسيقي أفقا واعدا في سماء ملبدة بالأفكار المسبقة والأحكام النمطية. يقر مجيد بقاس، من وحي تجربته الطويلة في استضافة فنانين من العالم الغربي، أنه كان يلمس أحيانا نوعا من الحذر والتخوف لدى بعض الموسيقيين في بداية احتكاكهم بمجال جغرافي وثقافي لا يعرفونه. يذكر أن اتصالات العائلات بالفنانين الأوروبيين المشاركين في مهرجان الرباط تكون مكثفة في الأيام الأولى وتعكس نوعا من التوتر، وكذلك سلوك بعض الموسيقيين الذي يبدو متحفظا، لكن الحرارة الإنسانية وقيم الكرم والتبادل سريعا ما تذيب الجليد، وتأخذ الفنانين في رحلة مفعمة بالمشاعر والحميمية، تطبعهم إلى الأبد.

مواهب تطل من النافذة

أكثر من صناعة لحظة للفرجة الموسيقية وخلق فضاء للقاء بين موسيقيين مخضرمين على ضفتي المتوسط، يأخذ المهرجان بعين الاعتبار هاجس الاستدامة من خلال إتاحة فرصة للمواهب الشابة المغربية للمشاركة وتقاسم المنصة مع عمالقة الجاز الأوروبي.

بعضهم وجد في جاز شالة منعطفا حاسما في مسيرة أخذته للتحليق بأجنحة عالمية، على غرار كميل حشادي، عازف الساكسفون الذي لبى دعوة المهرجان لينتقل إلى فرنسا حيث كون مجموعته، وواصل كميل مثابرته حيث درس في بيركلي التي تأوي أكبر مدرسة للجاز بأمريكا. وأنجز عدة أعمال ناجحة غير أنه ظل وفيا لنداء الجذور حيث عاد لدراسة الأنماط المغربية في أفق مزجها من خلال مشاريع قادمة، مع فن الجاز. على خطى تألق ونضج مماثلة، يمضي الشاب عادل الشرفي، عازف الناي الواعد الذي أطل بموهبته على الجمهور في منصة شالة.

الفنان وعازف القيثارة طارق هلال يقر بالأثر الإيجابي والطيب لمهرجان “الجاز في شالة”، على الفن والفنان والجمهور المغربي بشكل عام، وبشكل خاص في مسيرته الفنية، حيث شكلت مشاركته فيه إلى جانب زوجته الفنانة نبيلة معن، إضافة نوعية لهما، وفرصة للقاء والاشتغال مع فنانين أوروبيين، وتقاسم اللغة الموسيقية التي لا تعلو فوفقها أية لغة، ورؤية الموسيقى المغربية برؤية جديدة تختلف عن الرؤية المعتادة.

ولم تكن هذه الرؤية إلا ترسيخا للمزج الفني الرائع بين الموسيقى الأوروبية والمغربية والعربية، وهو المزج الموسيقي الذي يرى فيه طارق هلال “خير وسيلة نرى من خلالها مدى تشابهنا مع الثقافات الأخرى، وكيف أن اختلافاتنا لا تزيد إلا قوة شغفنا باكتشاف الآخر وجمالية ثقافته”.

لم يقتصر المزج الفني على موسيقى كناوة أو عيساوة مع الجاز، كما هو متعارف عليه، بل تعداه إلى الموسيقى الأندلسية والطرب الغرناطي، مثلما حدث مع الفنانة الشابة نبيلة معن، التي أكدت أن من يحب جميع أنواع الموسيقى، لا يرى ضررا في المزج بينها، وهذا يعطي طابعا خاصا للعمل، فالجمع مثلا بين المقامات الهندية والمقامات المغربية والريبيرتوار الأندلسي العريق مثير وممتع في الوقت نفسه.

الفنان غاني كريجة، الذي يتقن العزف على العديد من الآلات الإيقاعية، كان منطلقه من مدينته الصويرة ومن الإيقاعات الكناوية، مكنه فهمه العميق للموسيقى العربية والإفريقية والأنماط اللاتينو أمريكية، من السفر بعيدا عبر الموسيقى والمشاركة في العديد من المهرجانات، ومن ضمنها مهرجان الجاز في شالة، حيث مكنته إقامته القصيرة بفرنسا، واستقراره بألمانيا، من العمل هناك، والاحتكاك بكبار الموسيقيين العالميين، والقيام بجولات فنية عبر العالم، كان أبرزها جولته الفنية مع المغني العالمي ستينغ، التي فتحت له الأبواب للاشتغال مع فنانين عالميين آخرين كستيفي ووندر، وتشكي كوريا وآخرين، دون أن ينسى هويته المغربية، لأنه يقول “هويتي المغربية هي السر في نجاحي، وهي التي تجعلني أبحث عميقا في دواخلي، فما في أذني من موسيقى لم تصل له بعد يداي”.

إنه كغيره من الفنانين الشباب الذين عبروا إلى الضفة الأخرى من المتوسط للدراسة والعمل، وتمكنوا من الالتقاء والعمل مع فنانين عالميين، ولكن هذا لم ينسهم إطلاقا الاشتغال على الموسيقى المغربية الأصيلة، التي تمنحهم ذلك الطابع الخاص، الذي وعى به مبكرا منظمو مهرجان الجاز في شالة، وصنعوا له فرصا للقاء والعمل مع نظرائهم من الفنانين الأوروبيين في تمازج فني راق مع موسيقى الجاز.

مرآة للحوار والاحترام المتبادل

إذا كان مهرجان “الجاز في شالة” فرصة ونافذة للموسيقيين الشباب للبروز وتحقيق نوع من الشهرة والتمرس في العمل مع فنانين أوروبيين وعالميين، فإنه شكل بالنسبة للموسيقيين المغاربة المعروفين فرصة للخلق والإبداع وبناء جمل موسيقية جديدة، وهو ما يعبر عنه الفنان وعازف العود المغربي إدريس المالومي، الذي شارك فيه أكثر من خمس مرات، ويرى في المهرجان “تجربة فنية جميلة تسمح لنا باقتراح تصوراتنا الجمالية، وبناء جمل موسيقية جديدة”.

عازف العود إدريس المالومي

ويصف المالومي لقاءه بالعديد من الفنانين الأوروبيين بـ “الشغب الموسيقي الجميل”، الذي جعل عوده منفتحا على الآخر، وباحثا عن كيفية العمل مع المختلف، حيث يقول: “اكتشفت خلال اشتغالي في مهرجان الجاز في شالة أن العود المغربي يمكن له اقتراح أفعال موسيقية مختلفة، وأن يمتزج بتلاوين فنية مختلفة، ويحضر بنفس الندية والقيمة الجمالية للآلات الموسيقية الغربية”.

ويوضح المالومي أن مشاركاته في المهرجان بالعزف الفردي والثلاثي والرباعي أضافت له الشيء الكثير، على اعتبار أنه دائم التنقل في القارات الخمس، لكن الالتقاء بهؤلاء الفنانين في سماء العاصمة الرباط، كان له طعم خاص، لأن هناك مهرجانا قيما ينتبه للاختلاف ولما هو متميز، وجمهورا نوعيا لا يمكن للفنان إلا أن يكون مسرورا بالعزف له، ولهذا، كما يشير، فإن العديد من الفنانين الأوروبيين والمغاربة يتمنون حضوره، لأنه موعد راقي ومهرجان متميز، يتمنى أن تكون مهرجانات مثله في مختلف الجهات بالمغرب.

وعن ظروف وشروط العمل في مهرجان “الجاز في شالة” فيقول عنها المالومي، وبكل صراحة، إنها مهنية واحترافية للغاية، ولا تمايز فيها بين الفنان الأوروبي والمغربي، كما سبق لبعض الفنانين والموسيقيين المغاربة أن اشتكوا منها، ولأنه مهني يحترم نفسه وتجربته، فهو لن يقبل إلا بالعمل في جو من الاحترام والندية.

غير أن للفنانة السوبرانو سميرةالقادري، التي سبق لها المشاركة في مهرجان “الجاز في شالة” رفقة مجموعتها الموسيقية في تجربة فيزيون مع الفنان نيكولاس سيميون عام 2014، رأي آخر، فهي وإن كانت تقر بأهمية المهرجان وبالدور الإيجابي الذي يقوم به في خلق فرص اللقاء بين الموسيقيين والفنانين المغاربة والأوروبيين، وبتنظيمه المحكم وغيرة الموسيقي مجيد بقاس المدير الفني المسؤول عن البرمجة المغربية على الفن والفنان المغربي، وحرصه على حضوره الدائم في المهرجان، فإنها تأسف للمرتبة الثانية التي يدرج فيها الفنان والموسيقي المغربي، والغربة التي يحس بها في بلده.

السوبرانو سميرةالقادري

وتضيف أن الفنان المغربي تتكلف به وزارة الثقافة المغربية، الشريك في تنظيم هذا المهرجان، ولكنه مع ذلك لا يحظى بنفس الرعاية التي يحظى بها الفنان الأوروبي، حيث صرحت: “ما تقاضيته وفرقتي خلال مشاركتي بالمهرجان يعادل تعويض عازف واحد في فرقة نيكولاس سيمون، الذي سمح له المشاركة بسبعة عازفين، فيما طلب مني تقليص العدد. كنت أتمنى أن نعامل بشكل حسن ومتكافئ خاصة أننا في بلدنا، ولا نجتدي أي حسنة ولا نقبل أن نظل مجرد واجهة للارتزاق”.

وإذا غضضنا الطرف عن الجانب المادي غير المتكافئ، فإن التأثير الإيجابي للمهرجان على الفنان والفنانين المغاربة، كما تؤكد سميرة القادري، سيكون أفضل لو لم يظل مقتصرا على جمهور شالة، وعلى مجموع الأقراص الموسيقية المدمجة الموثقة للحفلات، لأنه كان سيسعى إلى خلق لقاءات وعروض أخرى، تسمح بخلق فرص للشغل للكفاءات المغربية.

وعلى المستوى الشخصي، توضح السوبرانو سميرة القادري، أن مشاركتها في مهرجان شالة لم تضف لها الشيء الكثير ولم تستفد منها، بل “الفنانين الأوروبيين هم الذين استفادوا من الفنانين المغاربة، وظلت مشاركتي محدودة هناك في أسوار شالة، ومع ذلك فأنا أعتز بها وبالعلاقات الإنسانية التي اكتسبتها هناك، حيث ما زلت أحاول مع مجموعة من الفنانين البحث عن فرص للقاء والعمل سويا مستقبلا”.

مهرجان خارج الأسوار

يستمد مهرجان “الجاز في شالة” سحره من عدة عوامل منها التعاون الموسيقي النموذجي بين المغرب والاتحاد الأوروبي، وقيم التقاسم والحوار المتبادل المبني على ندية الموسيقى، والتفاعل الإيجابي للجمهور المتابع له من المغرب ومن الخارج، لأن هناك رحلات سياحية ثقافية تنظم بالتزامن مع توقيت المهرجان، حيث يكون فيها المهرجان ومدينة الرباط هي المحفز الأساسي للرحلة، وهو ما ينعكس ايجابا على النشاط السياحي والاقتصادي للمدينة، بل وحتى الاجتماعي، مادام المهرجان في دوراته الأخيرة بدأ يخرج إلى الناس، ويقتحم فضاءاتهم المفتوحة أو المغلقة، من مثل السجون، التي استفاد مجموعة من نزلائها من العروض الفنية للمهرجان، ومن زيارة مجموعة من الفنانين لهم، وساعدهم الفن من التخفيف من معاناتهم، وإخراجهم من العزلة والإحباط، وابحث عن سبل لتغيير مسار حياتهم، خاصة الشباب المولع منهم بالموسيقى والفن عموما.

الجاز في الطرام، وفي محطة القطار أكدال، وفي شوارع مدينة الرباط، هو تجسيد لقيم المهرجان، التي عمل المهرجان طيلة دوراته 24، على ترسيخها وتكسير النمطي وما هو سائد، وجعل الموسيقى بوابة للانفتاح بين أوروبا والمغرب، وغيرها من الدول التي تحظى بشراكات مع الاتحاد الأوروبي، حيث لا شيء يعلو على لغة الموسيقى.

فعبر لقاءات فنية عفوية ومرتجلة في أغلب الأحيان، ولفائدة جمهور واسع في الشارع، وآخر في أماكن يتعذر على أصحابها التنقل، من مثل السجون، ومدارس الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، أو مدرسة السيرك للأطفال المتخلى عنهم أو في وضعية صعبة، أو مستشفى للأمراض العقلية، تقوم برمجة “المهرجان خارج الأسوار” على انفتاح المهرجان على محيطه، وذلك حتى يتحقق الهدف الأسمى للمهرجان المتمثل في التمازج الفني والموسيقي، ولم لا الأخلاقي، عبر غرس القيم الإنسانية النبيلة في التشارك والتبادل مع كل الفئات المجتمعية، كيفما كانت.

وهو ما تؤكده كلوديا فيداي سفيرة الاتحاد الأوروبي السابقة بالمغرب، حينما تقول إن الاتحاد الأوروبي، المبني على أنقاض قرون عديدة من الحروب بين الشعوب، يستمد قوته من تنوع شعوبه، لدرجة جعلها عملته الرئيسية “متحدون في إطار التنوع”. وتشير إلى أن الاهتمام بالتقارب والتنوع، شكل بنية أساسية للعمل على إرساء القيم الإنسانية العالمية، وهذا ما يتمثل بالفعل في مهرجان “الجاز في شالة” الذي عمل منذ تأسيسه عام 1996، على إعطاء رهان التنوع الموسيقي بين موسيقيي لقارة الأوروبية وموسيقيي المغرب، الأولوية لإغناء هذه الثقافة عبر جسر موسيقى الجاز العالمية ذات الجذور الممتدة مع موسيقى البلوز، والتاريخ العريق في تكسير الحواجز بين الثقافات، والقدرة على تعزيز الابتكار الفني والارتجال والخلق والإبداع في دمج الأصناف الموسيقية التقليدية مع الجديدة منها.

 ويأتي اختيار المهرجان للجاز لأنه شكل موسيقي متميز، وأرقى وسيلة تعبير عن محنة السود في أمريكا، وثروة هائلة اكتسبت لبوسا جديدا عبر ثقافات العالم، ولم تعد إنتاجا موسيقيا أسودا خالصا، يقتصر على مبدعين عمالقة سود من أمريكا، بل أصبح له مبدعون بيض مع الجاز اللاتيني بأوروبا، والجاز العربي مع أسماء قليلة من تونس ولبنان والمغرب، وهو ما دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو، تخصص له منذ عام 2011 يوما عالميا، وهو يوم 30 أبريل من كل سنة.

ولعل هذا الاحتفاء العالمي بموسيقى الجاز، هو ما حذا بالعديد من المهتمين به في المغرب إلى تخصيص مهرجانات له، من مثل مهرجان طنجاز بمدينة البوغاز طنجة عام 2000، وجاز بلانكا بالدارالبيضاء عام 2006، والجاز تحت شجرة الأركانة بالصويرة عام 2015، وكلها مهرجانات جاءت بعد مهرجان الجاز في شالة، الذي نجح وبرع في “الجاز فيزيون” وحقق السبق على العديد من المهرجانات المغربية والعربية بفضل برمجته الفنية التي يسهر عليها الثنائي البلجيكي جون كلود بيسو والمغربي مجيد بقاس. غير أن الاهتمام بموسيقى الجاز بالمغرب قديم نسبيا، فقد أسس إدريس بنعبد الله “نادي الجاز بييتري” بالرباط، كما أسس الإخوان السويسي: علي، حسن، وحمزة مدرسة للموسيقى يلقنون فيها الجاز لمن يرغب تعلمه، فيما حمل الفنان أرمو المالح معه إلى باريس في نهاية ستينيات القرن الماضي، حبه للجاز وتحديدا “الدقة جاز”، التي اخترعها عبر المزج بين الدقة الرودانية والمراكشية، أو أحيدوس الأمازيغي، والتي تجد امتدادا لها اليوم لدى الفنانة المغربية الشابة مريم عصيد، التي تمزج بين الموسيقى الأمازيغية “أحواش” وفن الجاز.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X