رشيد السبتي: فتنة الجسد من العين التي تبدعه

فريد الزاهي

رغم أننا أُتخمنا، منذ عقود، بفن يفتننا بغموضه التعبيري التجريدي، الهندسي أو الزخرفي، بتشابك خطوطه وتشكيلاته، كما في الألغاز والأسرار الذي يجعل تأويلنا البصري يواجهها من غير أن يدرك أحيانا مُجمل مفاوزها، فإننا لا نزال نعيش الدهشة كلما وجدنا أنفسنا أمام تشكيل “تشخيصي” يعاند تاريخ الفن التشكيلي العربي، كما يشاكس الواقعية المحضة التي تغزو سوق الفن الشعبي. إنها دهشة نابعة من إدراكنا، فعيننا وحواسّنا تنجذب رغمًا عنها لفتنة التشخيص، لقربه من مُقلتنا، فيما عين عقلنا تميل إلى التشكيلات التجريدية. وبالرغم من أن العدد من التجارب علّمتنا ألا تعارض بين المنْزعين، إذ نجدهما متشابكيْن لدى العديد من الفنانين، فإننا ما زلنا نعتمد هذه الثنائية بالكثير من الشطط بمثل اعتقادنا في ثنائية الخير والشر والحقيقة والخيال، مع أن مطرقة نيتشه هدمتهما مند أكثر من قرن من الزمان.

لوحة للفنان رشيد السبتي

فنان يحمل موهبته من الصبا

لم أكن أعرف رشيد السبتي رغم اطلاعي العميق على تاريخ التشكيل في المغرب والوطن العربي. اكتشفته مصادفةً حين كلّفتني مجلة تشكيلية مرموقة بأن أحرر نصًا بالفرنسية عن المعرض الافتتاحي لمتحف محمد السادس في الرباط من سنوات قليلة. وجدت نفسي أمام لوحات كتبت عنها بعشق، لأنها نابعة من تجربة خصوصية للتعبير التشخيصي، وتستعمل تقنيات تبتعد في الآن نفسه عن الواقعية الفجة، كما عن التعبيرية المغرقة في خلخلة مظهر الأشياء، بالرغم من مزجها بين أساليب عديدة من غير أن تنتمي لأحدها.

ليس من الغريب أن يكون رشيد السبتي قد تعاطى الرسم صبيًا، وهو يعيش في مدينة العرائش في شمال المغرب، متلقيًا كامل التشجيع من أبيه المتفتح والمتعلم. لذا كان قدره المباشر هو أن يرتاد مدرسة الفنون الجميلة بتطوان، المعروفة بتقاليدها الإسبانية التليدة في مجال الرسم والتشخيص الواقعي، التي تخرّج منها أهم الفنانين المجدِّدين في الفن الحديث الحديث والمعاصر.

وبما أن الفنان الشاب قد حمل طموحه منذ البداية بين أضلعه، فإنه كان أول مغربي يلتحق بالأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في بلجيكا التي تخرّج منها بعده ثلَّة من الفنانين المجددين كمصطفى البوجمعاوي والتيباري قنطور. هناك سيجد الشاب الفرصة لتطوير تجربته ولمراكمة الجوائز منذ سنة التخرج. بل إن الدولة البلجيكية سوف تكلفه لمرات عديدة ببلورة طوابع بريدية مناسباتية خلدت اسمه في هذا المضمار، سيرًا على خطى أساتذته في المغرب كالمكي مغارة وأحمد بنيسف وغيرهما. بيد أن الفنان ظل منغلقًا في مهجره، ولم يتح لنفسه ولنا أن نطلع على تجربته الخصوصية إلا بعد أن شارف الستين، كما لو كانت تلك العودة اعترافًا مجدَّدًا بذلك الصبي الشغوف بالرسم في مدينة مطلة على الأطلسي.

الجسد بين الخفاء والتجلي

ما يبدو مثيرًا للوهلة الأولى لدى رشيد السبتي، هو هوسه الغامر بالجسد الأنثوي في جميع أوضاعه وتجلياته. فإذا كانت بعض اهتماماته تسير نحو هذا الجسد في يومياته أو وضعياته التواصلية والاجتماعية، فإنه يبدو شغفًا إلى حد كبير برسم تفاصيل هذا الجسد في انصياعه للعين. وفي هذا نستشفّ تلك الرؤية الاستشراقية البصاصة التي جعلت من المرأة الشرقية “أوداليسكا” مسترخية تبين عن مفاتن جسدها ولو تحت الأردية العديدة التي تلتف عبرها. لكن الطريقة التي بها تمسك عين الفنان بهذا الجسد هي طريقة مخالفة؛ إذ إنه وهو يَعْمد إلى مسرحة الجسد يكاد ذلك يكون أشبه بالتلقائية. إتها نظرة تتأرجح بين الرغبة والشبق وبين الاكتشاف والاستكشاف. فهو حتى حين يعرّي بعض مناطق هذا الجسد يلفه بعباءة المادة وطريقة الاشتغال على كثافة اللون. كما أنه من جهة أخرى يتعامل معه تشكيليًا بضرب من الانطباعية التي تضبب المفاتن وتمنحها غموضًا يجعل من هذا الجسد كيانًا منفلتًا من عين المتفرج، لا يعرف أسرار تكوينه سوى الفنان. بهذه الطريقة يتراقص أسلوب السبتي بين الاحتشام والجرأة، وبين الرغبة والتسامي، كما بين الإجلاء والإخفاء. وكأننا بذلك نعيش معه تجربة ابتكار هذا الجسد لا كما تراه عينه (وإلا كان سقط في واقعية شبه فوتوغرافية نحاها بعض أبناء جيله من خريجي مدرسة تطوان) وإنما كما تراه الحواس مجتمعة. لذا حين نتأمل لوحاته (وبعضها هائل) فإننا نكاد نسمع خشخشة الفستان ووشْوشة الشفتين، ونحس بما يعتمل في باطن ذلك الجسد من حزن وكآبة وألم ورغبة.

بل حين يرسم مشاهد لنساء في وضعيات يومية، يرسمها بحب، بحيث ينتفض جمالهن من داخل اللوحة، كما لكي يأسرنا ويلفنا في إحساس غريب يجعلنا ندرك أن ليس هناك بين هذه المشاهد والمشاهد “العارية” أي فرق من حيث القوة والجاذبية والانسياق الذي يحسه المشاهد تجاهها. فالتجرد (الجزئي طبعًا)، كما اللباس، يمنح نوعًا من الإيروسية المبطَّنة التي نستشفها من الوجه والوِضعة والألوان كما النظرات. وما يزيد من حدة هذا الأثر الخصوصي هو التلاوين التي ينفلت فيها الفنان من واقعية الجسد ليضفي عليه طابعًا أشبه بالتصور الطفولي. فالأخضر والأصفر وغيرها من التنويعات الصارخة تطبع الجسد وبشرته لتحولها إلى لوحة تجريدية، لو نحن اقتطعناها من الصورة العامة.

رسوم تفقأ عين الواقعية

بيد أننا حين نطلع على رسومه التمهيدية نجد أنفسنا أمام عالم سري كامل، أو حديقة باطنية يمارس فيها الفنان حريته بالكثير من المرح. الجسد هنا في كل أوضاعه، يُبين عن مكامنه، ويستعرض مفاتنه كما لو كانت تنتمي لأعيننا، وكما لو أنها مُهداة مشاعًا لكل الأعين. هذه الرسوم تفصح عن حرفة عالية كما عن قدرة على الرسم السريع الذي يتفادى الدقة، ليمنحنا وجوهًا وأجسادًا تستلقي فوق الخطوط وتحملها خشخشة القلم إلى اكتمال فتنتها الآسرة. تمنحنا تلك الرسوم قربًا أكبر من مخيلة الفنان، ومن مختبره الشخصي الذي يطلق فيه العنان لرقصة الأنامل ووجد الأحاسيس وانفتاح الخيال. أحيانًا، لا بسبب السرعة، ولا نظرًا إلى دفق اللحظة، يغدو الجسد إيحائيًا، عبارة عن بعض الخطوط، كأنه يتوارى ويستعلن تبعًا لإيقاع الإحساس وقوة اللحظة. وأحيانًا أخرى يكاد يثوي وراء تيهان الخيال، يمنحنا إحساسًا بالكثافة، كأنه ينزوي في يد الفنان ليستعْصي علينا الإمساك بحضوره. إنها رسوم تمنح لتجربة رشيد السبتي خلفيتها الظليلة، التي في أحضانها تنمو الفكرة وينبثق الجسد كمظهر للوجود.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X