السينما الوطنية بين الإبداع والصناعة

محمد الشريف الطريبق

عرف الإنتاج في المغرب سلسلة من التطورات فيما يخص تطوير القوانين، وزيادة المبلغ المخصص لدعم الإنتاج؛ الشيء الذي ساهم في الحفاظ على وتيرة الإنتاج مستقرة تتراوح بين 15 إلى 22 فيلم أو أكثر في السنة، من بينها أفلام منتجة بمنحة التسبيق على المداخيل (صندوق دعم الإنتاج الوطني سابقا)، وأخرى بمبادرة من القطاع الخاص، في أغلب الأحيان بسبب تفعيل  القانون الذي يفرض على شركات تنفيذ الإنتاج المساهمة في الإنتاج الوطني بإنتاج ثلاث أفلام قصيرة أو فيلم طويل في كل خمس سنوات، أو بسبب وجود إمكانية الحصول على دعم ما بعد الإنتاج. لكن يبقى التوزيع في النهاية هو الحلقة المفقودة في سياسة تطوير القطاع السينمائي في المغرب في وضع انقراض القاعات السينمائية  على مدى عقود وخصوصا في غياب بديل قابل للتَّنفيذ في المدى القريب، لعدة عوامل من بينها توسع المدن بدون مخطط تهيئة أو وجود قانون التعمير الذي أدى من بين ما أدى إليه انحباس الوعاء العقاري، الشيء الذي يجعل  إمكانيات وجود قاعات جديدة وسط المدن في المستقبل، شبه مستحيلة. بالمقابل وجود إمكانية لقاعات في شكل مركبات بمراكز التسوق  الشيء الذي يجعل السينما في متناول الشرائح الاجتماعية الميسورة فقط وفي أقصى الحالات المتوسطة.

تولد الأفلام المغربية ميتة أو بحياة قصيرة وبتوزيع محتشم. في أحسن الأحوال لا يتجاوز بعض قاعات المدن الكبرى أو بعض المهرجانات، أو بحياة لا يتجاوز مهرجان الفيلم الوطني لتعود للرفوف، عسى أن ينتبه إليها يوما ما مدير فني لأحد المهرجانات السينمائية يرغب أن ينظم  بالموازاة مع المسابقة الرسمية لمهرجانه، لحظة استرجاع لإحدى السينمات الوطنية أو في لحظة تكريم لمخرج الفيلم أو أحد الممثلين، أو تُستعاد في إطار الأسابيع المغربية الذي تنظمها إحدى السفارات المغربية في الخارج. توجد إذن الأفلام المغربية في غياب سوق، أي في شبه غياب المتفرج وفي غياب سياسة تبحث عن سوق لهدف استعادة ما تستثمره الدولة في دعم الإنتاج السينمائي أو على الأقل جزء منه، وكذلك لتحقيق الهدف اللامادي من وراء فلسفة سياسة دعم الثقافة بشكل عام أي توفير الثقافة للمواطنين.

في غياب توزيع حقيقي وطني للفيلم المغربي، لا يستطيع المنتج أن يحقق أرباحا قد تشجع القطاع الخاص على أن يبادر بالاستثمار في قطاع السينما وممكن أن يجعل القطاع ذاته محل ثقة من طرف القطاع البنكي، وتغيب التنافسية التي تضمن تطور وتطوير أي مجال اقتصادي، ولا يستطيع المخرج في هذا الوضع أن يستفيد من رجع الصدى الكافي ليقيم مسافة مع عمله ويقيمه بشكل موضوعي، ويفقد عمل المنتج والمخرج معناه، يفقد النقد وظيفته الأساسية، وتغيب منابر وازنة ومؤثرة في حياة ومسار الفيلم ودرجة الإقبال عليه ويقام لها ألف حساب عند خروجه للقاعات السينمائية. غياب منابر وازنة ومؤثرة كحلقة أساسية في توزيع الفيلم والترويج له، يجعل الممارسة النقدية في المغرب تبقى في النهاية  مبادرات شخصية هاوية يحركها حب السينما ونوع من الغيرة على القطاع بنوستالجيا سنوات الجامعة الوطنية للأندية السينمائية والإطارات الثقافية كواجهة لصراع سياسي، لسنوات المد اليساري في المغرب والعالم.

توجد، أو وُجدت أهم السينمات العالمية أولا كصناعة وكحضور في السوق أو في مجموعة من الأسواق. ويمكن أن نأتي  في هذا السياق بمثال بعض هذه السينمات الوطنية التي تعتبر كمدارس سينمائية بارزة، كالتعبيرية الألمانية، والموجة الجديدة الفرنسية، وسينما دول المعسكر الاشتراكي أي الواقعية الاشتراكية. تتعدد الأهداف (الربح المالي أو الدعاية لنظام سياسي معين أو نشر الثقافة). وتبقى الوسيلة الوحيدة هي التوزيع والانتشار وطنيا وعالميا، وإلا كيف كان  سيتمكن رواد الأندية السينمائية في العالم أن يكتشفوا سينمات أوربا الشرقية وأفلام بعض المخرجين مثل إيزنشتاين ودزيكا فرتوف وأندري فايدا وآخرون … وجود سينما وطنية لا يُحدد بمدى ابداعية  هذه السينما، ولكن بقدر ما يحدده امتلاك وسائل الإنتاج وتحقيق كم معين من الأفلام لضمان حضور وموقع داخل السوق في شقيه المحلي والدولي. لا يمكن تحديد مقومات الإبداع وإمكانية نجاحه مسبقا، لأن الإبداع في النهاية مغامرة وهو قيمة نسبية وغير ثابتة. إن ما يمكن أن نعتبره مثلا الآن إبداعًا قد لا يعتبر كذلك بعد مرور وقت من الزمن. بالمقابل الصناعة قيمة مادية تقاس بالأرقام والحسابات ومدى الامتداد المجالي، وتحتاج أن يتوفر في أي مشروع مجموعة من المقومات تضمن نسبة مهمة من النجاح بشكل عام، كالحكاية بالدرجة الأولى والممثلين.

تصنف الأفلام الهندية الشعبية مثلا ضمن “السينما الهندية” وهي كما يعرف الجميع سينما بسيطة من حيث الشكل والمضمون، سينما نمطية وحكاياتها متوقعة تلعب على الوتر الحساس للشريحة الكبرى من الجمهور، خصوصا الفئات الفقيرة. ولكنها تنعت كسينما وطنية، أي “السينما الهندية”، وتصنف في أدبيات السينما عالميا كذلك لأنها استطاعت منذ بداياتها أن تحافظ على وتيرة الإنتاج، والأهم أنها حققت وتحقق نجاحا جماهيريا وطنيا في بلد الإنتاج، ودوليا خصوصا في بعض دول العالم الثالث. وصف ما تنتجه الهند من أفلام  بــ”السينما الهندية” لا يأخذ بعين الاعتبار كون هذه السينما تحصل على جوائز أهم المهرجانات أو اعتراف النقاد أو بإبداعيتها، رغم وجود بعض التجارب الإستثنائية  والناذرة، تشتغل بمنطق مختلف عن السينما السائدة ولها حضور في المحافل الدولية كأعمال المخرج ستياجيت راي على سبيل المثال، لكن هذه التجارب تبقى حالات معزولة ولا تشكل القاعدة.

ماذا كانت ستكون مقاربة الأفلام المغربية التي أنتجت لحد الآن، لو أننا كنا نتوفر على شبكة من القاعات، تغطي جميع مناطق ومدن المغرب وبإقبال جماهيري ممكن أن يجعل الفيلم المغربي مُدِّرًا لربح مادي ويجعل الأفلام تتحول إلى ظواهر اجتماعية؟ هل كان البعض سيجد الوقت لتشكيك أو نفي وجود “السينما المغربية” ويفضل أن يتوقف عن وصفها فقط أفلام مغربية، كنوع من الاحتجاج على جودة يعتبرها المهتم بالسينما مفقودة في الفيلم المغربي؟

مع غياب حلقة التوزيع الوطني والدولي للفيلم المغربي، نتوقف في منتصف الطريق، الشيئ الذي لا يرقى بنا إلى مستوى الصناعة، وبالتالي أن تصنف الأفلام التي تنتج داخل المغرب ضمن سينما وطنية. لا يمكن أن توجد سينما وطنية بدون صناعة سينمائية بكل مقوماتها، والتي من بين ركائزها التوزيع والاستغلال. الغريب والمفارقة، هو أن التحول الذي عرفه صندوق دعم الانتاج الوطني إلى “منحة التسبيق على المداخيل” جاء في الفترة التي أصبحت فيه القاعات في المغرب شبه منعدمة، وأن تصاعد وتيرة الإنتاج السينمائي في المغرب تطور بنفس وتيرة اندثار شاشات العرض.

إن الأفلام المغربية، بغض النظر عن كونها لا تحقق تراكما نوعيا، وربما  لا ترقى إلى المستوى المطلوب، وعدم استيفائها لشروط الكتابة السينمائية، تجعل حكاياتها وعوالمها مقبولة ومقنعة لو كانت قد وجدت في زمن ازدهار القاعات السينمائية وانتشارها في كل مدن المغرب. كانت ستحقق نجاحا كان سيجعلنا من السينمات المعروفة دوليا بحكم كم الإنتاج . الفيلم المغربي خارج الشروط التي يضعها المهتمون له والتي تجعلهم غير راضين عن مستواه وصارمين في مقاربته، هو قادر في وضعه الحالي على جلب جمهور واسع لو توفرت شروط توزيع حقيقية، وآنذاك كانت ستكون مقاربته النقدية مختلفة عن ما هي عليه الآن، المقاربة التي لا تضع نفسها كوسيط بين المتفرج والفيلم كما هو الحال في السينمات الأخرى، ولكنها تبحث عن أسألتها الخاصة، وتنطلق فقط من عشق السينما وبدون أي ارتباطات مهنية وتبحث في الفيلم المغربي عن نوع من صدى لسينيفيلية ليس إلا.

إن المقاربة النقدية للفيلم المغربي بكل تمثلاتها، لا تتموقع في مكانها الطبيعي أي كحلقة من حلقات سلسلة صناعة السينما، أي أولا كوسيلة للترويج والتعريف بالفيلم، أي كوسيط بين الفيلم والمتفرج، ولكنها تنطلق من وضع المتفرج العاشق الذي يتعامل مع الفيلم من الخارج، مجردا عن شروط إنتاجه وجمهوره المستهدف، أي مع الفيلم كمنتوج من المفروض أن يخلق متعة شخصية للناقد وكفى ويجيب على أفق انتظارات جمالية وموضوعاتية.  يتموقع الناقد بوعي خارج منظومة الإنتاج السينمائي الوطني بحكم قطعي ونهائي ورؤية متعالية غير مندمجة هي الأخرى في ممارسة تتحمل هي الأخرى مسؤولية تطوير الإنتاج المغربي وتتوقف عند البحث عند بعض التجارب لمخرجين مغاربة وتعتبرهم يحققون سبب وجوده وتكتفي بهم …

يطالب الفيلم المغربي، بما يطالب به بالإبداع، وفي نفس الآن يُطالب بحبكة درامية  تفرض عليه تحقيق خط حكي تصاعدي أو أشياء من هذا القبيل. إننا هنا في الحقيقة لا نطالبه بالإبداع ولكن بإعادة الإنتاج لنفس أنماط ألحكي ونفس الخطاطات الدرامية المتعارف عليها مند عهد الإغريق والتي استعارتها السينما مند ظهورها من المسرح، والتي تحققها كقيمة مطلقة السينما التجارية. يجب أن نتخلى مؤقتا عن قاموس تهيمن فيه كلمة “إبداع” لأن الإبداع من خصائصه أنه لا يخضع لخطاطات سابقة الوجود ولا لأي قواعد، وغير متوقع ويفاجئنا بالجديد. الجديد الذي يفرض آليات مقاربة جديدة وغير متوفرة بعد عند ظهور العمل، وفي المقابل يجب تبني معايير موضوعية تطالب الفيلم بنوع من الصرامة في جميع مستويات الكتابة السينمائية، قبل أن تطالبه بالإبداع وأشياء يصعب تقييمها بشكل موضوعي. المعايير التي يمكن أن تجعل لنقاشنا حول السينما بحد أدنى من المسلمات والمعايير التي نتفق عليها وتكون أرضية لإبداع محتمل، ربما.

يجب علينا أن نوحد لغتنا وآلياتنا التي نتناول بها “السينما المغربية” ونجعلها بسيطة، لأنها كذلك ولأنها تتلخص لحد الآن في غياب القاعات، أي السوق، وبالتالي مع غياب السوق وانعدام المغامرة والمنافسة والتطور. لأن المنافسة من بين الشروط الأساسية لوجود صناعة ما وتطورها حتى إبداعيا. كحال السينما المغربية، الخطاب الموازي لهذه السينما هو الآخر، ومند زمان، لم يأت بما يشبه اقتراح أو أفكار مُبادرة للنهوض بالقطاع. حيث أثبتت السنوات أن الاحتجاج لا يكفي لأنه يخلق لفاعله وضعا مريحا يعفيه من المسؤولية.

إذن الفيلم المغربي رغم ما نعيب عليه من الهشاشة الدرامية وضعف الكتابة إلى غير ذلك، يجد طريقة إلى جمهوره، إن توفرت له الظروف، دون صعوبات وبسلاسة ولا ينقصه إلا وجود شبكة من قاعات العرض التي أصبحت نادرة. هناك أجيال من المغاربة في المدن المتوسطة والصغيرة وحتى في الأحياء الهامشية للمدن الكبرى لم يسبق لها أن شاهدت فيلما في قاعة سينمائية ولا تعرف من السينما إلا ما تشاهده على التلفاز والانترنيت دون تمييز بين فيلم سينمائي وفيلم تلفزيوني وبين فيلم سينمائي ومسلسل تركي مدبلج. لقد بات في هذا الوضع من الضروري، أولا إعادة تربية المتفرج المغربي للاستعادة عادات وتقاليد الذهاب لقاعة سينمائية وترسيخها.

اعتقد أن شعار “السينما الوطنية” الذي نادت به وحلمت وآمنت به أجيال من المهتمين بالسينما بالمغرب، لم يتجاوز مستوى الشعار ولم يرقى إلى لحظة تفكير حقيقية عن سبل تنزيله في كل أبعاده وليس فقط في بعده الإبداعي. في انتظار أن يستطيع التراكم الكمي الذي تحققه السينما المغربية والتطور الحاصل والذي لا يمكننا أن ننفيه  أن يبلورا في المستقبل إمكانية وجود سوق سينمائية داخلية أم دولية،  أظن أن هناك تسرعًا في الحكم على هذه الأفلام، ويمكن أن نقول أنها مسائلة تنطلق من رغبة ومن طموح أن يكون الوضع أحسن مما هو عليه، ولا تنطلق من رصد الواقع. في انتظار ذالك، تساهم الأفلام المغربية رغم كل ما يمكن أن يقال عنها في صناعة ذاكرة المغاربة، ذاكرة للمستقبل، كشاهد على زماننا وتراثا وطنيا ولو في غياب الإبداع، لو افترضنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X