أيام قرطاج السينمائية تهزم الإرهاب

أحمد بوغابة (*)

أحمد بوغابة

نجحت “أيام قرطاج السينمائية” في دورتها الأخيرة التي تحمل رقم 29 (3 – 10 نوفمبر)، كما حال في دوراته الأخيرة، خاصة في سنة 2015، بهزم الإرهاب بفضل الدعم الجماهيري والشعبي لأهم تظاهرة تحتضنها تونس المناضلة. ويُعد هذا الجمهور الرائع، السينيفيلي بامتياز، العمق الاستراتيجي للمهرجان وخلفيته الأبدية والذي يملأ جميع القاعات السينمائية بدون استثناء طيلة مدة المهرجان (23 فضاء للعرض)، سواء القاعات التقليدية للمهرجان الموجودة في وسط المدينة (9 قاعات + دارين للثقافة + “سينما الشارع” بحبيب بورقيبة) أو بالقاعات العصرية والحديثة بالمعلمة الثقافية الجديدة التي تحمل إسم “مدينة الثقافة” (4 قاعات) والتي لا تبعد، في الحقيقة إلا ربع ساعة عن شارع بورقيبة مشيا على الأقدام. فضلا عن 5 قاعات بنواحي تونس لتقريب السينما لأهلها.

لكن، وكما أشار المدير العام للمهرجان نفسه، تلك القاعات التاريخية الموجودة في وسط المدينة، والتي تشهد على تفاصيل التفاصيل لأيام قرطاج منذ تأسيسها، قد تدهورت كثيرا محتوياتها (الكراسي والشاشات والصوت والنظافة) خاصة “الكوليزي”، التي كانوا يطلقون عليها في تونس “ملكة القاعات”، والتي مازالت تحتضن المسابقة الرسمية فتسبب في تشويه الأفلام. هذه القاعات تستحق عناية من المؤسسة السينمائية المسؤولة لرد الاعتبار لها مادام المهرجان قد أصبح سنويا ويرتفع عدد المدعوين في كل دورة.

وفي المقابل، امتلكت “الأيام” فضاء جديدا المتمثل في مسرح “الأوبرا” الموجود في مدينة الثقافة، والذي احتضن حفلتي الافتتاح والاختتام، لتتجاوز مشاكل السنوات الماضية من الازدحام والتكدس في فضاءات لا تستوعب جميع الضيوف (تضم قاعة الأوبرا 1800 مقعد). إنجاز مهم لصالح أقدم تظاهرة سينمائية في إفريقيا.

وعرف حفل الاختتام لـ “أيام قرطاج” فرحا مزدوجا استمده أيضا من الجماهير التونسية، بانتصار فريقها الكروي “الترجي” بلقب دوي أبطال إفريقيا على حساب “الأهلي” المصري. هو انتصار أيضا ضد الإرهاب حيث كانت الجماهير الكروية في مستوى عال من النضج في فرحها بالاحتفاظ على النظام حتى لا تفسد الفرح التونسي في الكرة والسينما، ولا يسعك كمغاربي إلا أن تندمج في نفس الفرح بعفوية مع شعب قال فيه الشاعر الخالد محمود درويش أجمل القصائد.

الجمهور هو العمود الفقري لنجاح “أيام قرطاج”

تعرف القاعات السينمائية إبان “أيام قرطاج السينمائية” إقبالا يوميا مكثفا، من الصباح إلى ساعة متأخرة من الليل، وهي ظاهرة سينمائية تتميز بها تونس منذ إطلاق هذا المهرجان سنة 1966. والأهم أن أغلبية هذا الجمهور يبقى إلى نهاية العروض ويتابعها باهتمام إلا قلة فليلة جدا التي تغادر الأفلام في منتصفها. وبذلك فإنه يُعد الركيزة الأساسية لـ “أيم قرطاج” وحاميها ولا يتأثر بموقف “المقاطعين”. وتوسعت العروض لتشمل مجموعة من السجون بتونس وهي المبادرة التي أسسها المدير السابق السينمائي إبراهيم اللطيف سنة 2015.

كثير من المهتمين بالسينما في تونس يخططون مسبقا للحصول على عطلة بغرض مواكبة التظاهرة طيلة الأسبوع، مناسبة سنوية استثنائية حيث أمام الجمهور لائحة دولية من الأفلام تنتمي إلى الجنوب بالأساس، وكذا بعض الإنتاجات المتميزة من الشمال، أهم فيلم جاء من الشمال هذه السنة (2018) هو فيلم “كتاب الصورة” للمخرج جان لوك غودار.

إلا أن هذا الجمهور المتميز الكبير والواسع والرائع في غالبيته من الشباب، يندس بينهم بعض المراهقين وأحيانا من المسنين مَنْ لا يحترم الفرجة الثقافية (وهم قلة قليلة جدا لحسن الحظ لكنها تخلق التشويش) بالكلام طيلة مدة العرض أو الانشغال بالهواتف مما يسبب إزعاجا حقيقيا بأضوائها. وبالتالي ينبغي في نظري استدراك الأمر مستقبلا لإعادة تأطير هذه “القلة المزعجة” لكوننا في مهرجان دولي يحضره أجانب ومحترفين من جميع أقطار العالم بغرض الاحتفاظ بالصورة الجميلة للجمهور السينمائي التونسي. كما غابت للأسف النقاشات العميقة حول الأفلام التي كانت تجمع سابقا مختلف الفعاليات لـ “تشريحها”.

يحاول الإرهابيون عند كل تظاهرة مهمة كـ “أيام قرطاج السينمائية” مثلا “بعث رسالتهم الترهيبية” التي تفشل في الوصول إلى هدفها وهو تخويف الجمهور المحلي وكذا الزوار والمدعوين، حيث لا يستجيب لها أحد بقدر ما تقوي الجميع وتتعاضد القوى الحية والحرة ضدهم. فإبان الاستعدادات للدورة 29 بتجميل الأمكنة، خاصة شارع بورقيبة، تم إفشال محاولة إرهابية بفضل يقظة الأمن التونسي، وقد صادفت تلك المحاولة في اليوم نفسه الذي ستفتتح فيه أول دورة جديدة لمهرجان سينمائي نضالي الذي تمحورت أفلامه حول مكافحة الفساد المنظم من لدن “الهيئة الوطنية التونسية لمكافحة الفساد” والتي أصرت يومها على أن تنطلق دورتها التأسيسية بعزيمة قوية، جل المشاركين فيها هم من الشباب والشابات القادمين من مختلف مدن تونس وكأنه تعبير وطني لمناهضة الإرهاب كمناهضتها للفساد.

وكانت إدارة مهرجان “أيام قرطاج”، بقيادة المنتج والمناضل السابق في “الجامعة التونسية لنوادي السينما” السيد نجيب عياد، قد أصدرت يوم المحاولة الإرهابية الفاشلة بيانا تنديدا بها جاء فيه: “يدين نجيب عياد المدير العام لأيام قرطاج السينمائية والهيئة المنظمة للمهرجان، بشدة الهجوم الإرهابي الخسيس، الذي جد صباح الاثنين 29 أكتوبر وسط العاصمة تونس، وذلك قبل أيام قليلة من افتتاح أيام قرطاج السينمائية 2018… والتي تبقى صورة تونس العاكسة للحرية والتسامح متشبثة بقناعاتها ولن تنحني أمام حاملي المشاريع الظلامية، وتصدح عاليا وبقوة بأن الثقافة هي السد المنيع والوحيد ضد الجهل وأعداء الحياة. إن الإرهاب اليوم ظاهرة عالمية وللأسف لا أحد في مأمن ورغم ذلك أيام قرطاج السينمائية ستنعقد في موعدها وتحتفي بقيم التسامح والانفتاح وحب الحياة”.

إن الذين حضروا لأول مرة “الأيام” ولا يعرفون تاريخها السابق الممتد لأكثر من نصف قرن وأحسوا بضغط أمني لم يدركوا أنه حاجة ضرورية وإلزامية للاحتفال بمهرجان ثقافي وفني يستقطب أكبر وأوسع تجمهر تونسي حتى لا يقوم مختل أو مختلة بحماقة ما. وقد أصبح طغيان الأمن حاضرا حاليا بقوة في مختلف التظاهرات العالمية بدون استثناء.

العودة إلى الأصل أصل

أكد مدير المهرجان السيد نجيب عياد في الافتتاح والاختتام أن “أيام قرطاج السينمائية” قد عادت إلى أصولها الإفريقية والعربية، تحت شعار “الرجوع إلى الثوابت” و”عدم تشبهها – أي الأيام – بتظاهرة أخرى”، وهذا إعلان نضالي بإعادة الحياة لهذه التظاهرة المناضلة بامتياز. وهذه العودة بدأت مع إبراهيم اللطيف بعد أن كانت قد زاغت عن طريقها في دورات 2008 و2010 بتواطؤ إدارتها حينها مع النظام البائد، وكانت تلك الإدارة تسعى لمسح هوية “الأيام” الإفريقية والعربية وتحويلها إلى مهرجان يقطع صلته بالجنوب تحت تبريرات زائفة وغير مقنعة، والجميع يعلم أن تلك الإدارة كانت لها “مصالح سينمائية” مع الغرب المرتبطة به وجدانيا وثقافيا وتريد ترويج سلعته، وكانت لها نوع من الاحتقار تُجاه افريقيا والجنوب عامة. لكن الثورة التونسية العظيمة أنقذت البلد والعباد، وحتى “الأيام”، فباءت محاولة خدام النظام البائد بالفشل ب “تدويل” المهرجان بصيغة مبتذلة لمهرجانات الغرب.

قالوا قديما “العودة إلى الأصل أصل”، فلولا الثورة لضاعت “الأيام” من إفريقيا وتحولت إلى خلفية لأفلام فرنسية رديئة، وبالتالي مازال مسار التصحيح مستمرا لاسترجاع “الأيام” إلى أصولها وجذورها بنفس النَّفَس. وحبذا لو تم في إطار هذا التجديد في الثوابت بإطلاق تسمية السينمائي الراحل الطاهر شريعة على “التانيت الذهبي” عوض اقتصار اسمه على “العمل الأول”، فهو المؤسس للسينما التونسية عامة بثقافتها وأنديتها وإشاعة النقد السينمائي منذ استقلال تونس والمدافع النموذجي على السينما الإفريقية، وسينما الجنوب عامة، فهو معلمة تاريخية في مستوى ابن خلدون وأبو القاسم الشابي، إنه المبتدأ والخبر في السينما التونسية. كنت أتمنى أن تكون هذه الالتفاتة من لدن نجيب عياد الذي جمعته به سنوات النضال السينمائي.

ودائما ضمن التجديد في الثوابت، نقترح أن تبقى الفقرات الموازية في الجغرافية الإفريقية/العربية عوض السفر إلى القارات الأخرى بثقلها الطاغي فيتضخم المهرجان في زمن قصير (أسبوع واحد) فيتشتت المتابع على حساب أنشطة مهمة ومفيدة يصعب مواكبتها في زخم الكم رغم أهميته. وفي نفس الإطار، نلاحظ أن “الجوائز الموازية” لا قيمة مضافة لها في المهرجان باستثناء جائزة الاتحاد العام التونسي للشغل التي يمكن أن تكون من بين الجوائز الرئيسية لأنها مرتبطة بالتقنيين السينمائيين التونسيين من جهة، ومن جهة أخرى رمزية النقابة في تاريخ تونس تستحق الإشادة بها وليس تهميشها مع من لا قيمة له في السيرورة السينمائية، ومن الأفضل أن تستغني إدارة “الأيام” مستقبلا من صداع رأس بعض “الجوائز الوهمية” التي تتسلل منها الانتهازية بحكم انعدام جديتها.

صناعة نجاح مهرجان ما تبنيه الأفلام طبعا والجمهور، وأيضا المكتب الصحفي المحترف الذي هو بمثابة قنطرة التواصل المهني الجيد، وهو ما اجتمعت عليه الأغلبية الساحقة من الصحفيين والنقاد ب “أيام قرطاج السينمائية” في هذه الدورة حيث كان فريق المكتب الصحفي برمته، تحت إدارة الصحفية كريمة الوسلاتي، فريقا محترفا فعلا هذه السنة، وهو مكسب ملموس للمهرجان لأنه نجح في التواصل مع المهنيين ومدهم بجميع الأخبار، مباشرة أو عبر وسائل التواصل المختلفة، وعلى مدار اليوم والليل، وقبل أن يطلبوها في غالب الأحيان. خطوة متقدمة في تسهيل العمل والمتابعة خاصة مع وجود موقع إلكتروني مواكب لتفاصيل البرنامج.

كما اعتمدت نشرة المهرجان اليومية هذه السنة على خطة جديدة، وهي التركيز على الأفلام المبرمجة في المسابقة الرسمية عوض الأخبار ومحتفظة على نفس الجمالية في الإخراج والتي أشرف عليها الزميل خميس خياطي.

وفي نفس السياق، يمكن القول وبدون تحفظ، أن “أيام قرطاج السينمائية” تظاهرة تونسية خالصة بطاقمها الإداري، من مديرها العام إلى أبسط موظف، حيث لم تلتجئ تونس لاستقدام شركات أجنبية لتشرف على التنظيم والإدارة الفنية والتقنية وغيرها، بل اعتمدت على طاقتها المحلية الوطنية مائة بالمائة، تنظيم تونسي محض.

(*) صحفي وناقد سينمائي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X