عن مهرجان كان… مرة أخرى

بايجاز، ليس من العبث ان للأفلام جينريكات في البداية، وفي النهاية، حيث من المفروض أن فيلما سينمائيا كموضوع، يجب ان يكون مستقلا بذاته، ويجب أن يتضمن معلومات كافية عن هويته، أي عن  صانعيه وممولينه، وتاريخ الانتاج، وبلد أو بلدان الإنتاج وربما حتى الجوائز المحصل عليه في بعض مهرجانات الدرجة الاولى  كـ”كان” أو برلين.

بالإضافة إلى أن الجنيريك يصبح في حد ذاته مجالا لاختيارات جمالية. أي أن هناك مجموعة من الاحتمالات لتصوره حسب نوع الفيلم. هل سنطبع العناوين على الصور أم نكتفي بأسماء مكتوبة بالأبيض، تكتب على شاشة سوداء؟ هل يصاحب الجنيريك موسيقى أم مقاطع من الحوار، أم صمت؟ مع العلم ان  اسلوب الجنيريك قد تطور مع تطور السينما، حيث أنه  في القديم كان جنيريك النهاية  يكتفي فقط بكلمة “النهاية” وشعار الشركة المنتجة، على أنه في جنيريك البداية يتم تقديم جميع العاملين في الفيلم، والمختبر الذي احتضن أشغال ما بعد الانتاج،  وتقنيات تسجيل الصوت إلى غير ذلك.

قصص أفلام هذه الفترة كانت تهيكل بنائها على لحظة النهاية. ومع تطور الزمن والسينما اصبحت نهايات الأفلام مفتوحة. يلاحظ الآن أن جنيريك البداية يكتفي فقط بعرض اسماء المهام التي لها علاقة بالإبداع أو المناصب المهمة في صناعة الفيلم. وقد يلاحظ أيضا مع تطور السينما، ومع الزمن، أن جنيريكات النهاية غدت أطول. لا لأنه وقع تغيير في عدد العاملين في الفيلم، ولكن لأن النموذج الاقتصادي الذي يميز تمويل  الصناعة السينمائية قد تغير، حيث لم يعد انتاج فيلم يتطلب منتج يمول الفيلم من ماله أومن أي مصدر أخر، ولكن أصبح المنتج هو فقط المبادر في العملية الانتاجية، وحامل المشروع، ومسؤول عن التركيبة الإنتاجية للفيلم. حيث أن تمويل فيلم أصبح يتطلب متدخلين مهنيين كثر (منتجين)، أو مؤسسات حكومية منتخبة، ومنتجين مشتركين، وموزعين، والقنوات التلفزيونية، وصناديق تمويل بعض المهرجانات… وانضافت أيضا إلى جنيريكات النهاية فقرة التشكرات التي لم يكن لها أثرا في السينما الكلاسيكية.

ان تطور جنيريك الأفلام هو تعبير عن تطور السينما وتطور نمطها الاقتصادي، الجزء الذي لا يمكن اغفاله في مقاربة الفيلم. بالنسبة للمتتبع العارف بمجريات الامور، فالجنيريك يتضمن اسرار صناعة الفيلم، وطرق تنفيذه، والمدة التي استغرقها التحضير له، اي أنه مثلا كلما  تعدد المتدخلين من الناحية الانتاجية كلما استغرقت مرحلة التطور فترة طويلة، وربما يضمن حتى معلومات  قد تهم الفيلم من الناحية السياسية أيضا في حالة وجود مساهمة لمؤسسات حكومية ليس من اختصاصها دعم السينما، أو شكر خاص لمسؤولين من كبار في الدولة.

ربما قد يتساءل القارئ عن سر تناول هذا الموضوع في هاته الآونة بالذات،  والتي تتزامن مع مهرجان “كان” الدولي، على الاقل في لحظة كتابة هذه السطور، والذي تصاحبه مند مدة تعليقات وكتابات وتقاسم المقالات على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي في غالبيتها، وبنوع من الانبهار، تتأسف عن عدم مشاركة الفيلم مغربي في احدى المسابقات. والمعني ليس مخرجين تعطى لهم الجنسية بمناسبة تميز في احدى التظاهرات، ولكن صنف المخرجين المقيمين بالمغرب المتاحين لهؤلاء المهتمين، اي الفاعلين الحقيقيين في المشهد السينمائي الوطني، بأفلامهم وحضورهم لإنجاح التظاهرات السينمائية، ومساندة بعض الجمعيات الانسانية …أي ببساطة مواطنون، والدليل أنه هناك مخرجة من أصول مغربية تشارك في فقرة ” نظرة ما”.

أولا، قبل اي تقييم أو حكم من المفروض قراءة جنيريكات الأفلام التي يتم اختيارها في احدى مسابقات هذا المهرجان أو ما يماثله في الدرجة،  لمعرفة أن مخرجا مستقلا يصنع فيلمه بدون انتاج مشترك اوروبي، في الغالب، أو ليس اوروبيا أو موزع  مسبقا من طرف كبريات شركات التوزيع الأوربي، لن تجد له اثرا في المسابقة، ولو تألق فنيا.

ثانيا، الأفلام التي تشارك في كان وبرلين وفينيسيا وغيرها لا تشكل حتى واحد في المئة من الانتاج العالمي، وبالتالي لا يمكن اعتبار ان الابداع يقتصر فقط على الأفلام التي تحمل علامة هذه المهرجانات.

ثالثا، تشكل المهرجانات بكل درجاتها، وسيلة لتقريب الفيلم من جمهوره، أي نشر السينما، ولا توجد للإقصاء، وليست هي الوسيلة الوحيدة. ولا اعتقد ان انسانا يعشق فيلما فقط لأنه عرض أو نال إحدى الجوائز في المهرجانات العالمية.

رابعا، اللجان التي تلقى على عاتقها مهمة اختيار الافلام لمسابقات هذه المهرجانات ليست مكونة من اشخاص لهم ذوق معين وتوجه يختارون وفقه، وليسوا بالضرورة موضوع إجماع. وقد يتعارض اختيارهم، وتوقعهم مع لجان التحكيم لنفس المهرجانات، أو مع الرأي العام المتابع لها.

خامسا، لقد اتفق المتتبعون الذين يتمتعون بقليل من الوعي النقدي لمهرجان “كان” في العشر سنوات الاخيرة، أن المسابقة الرسمية لم تعد تأتي بالجديد لأن نفس الأسماء بدأت تتكرر، ولا يكلف المهرجان أو ادارته الفنية عناء المغامرة للانفتاح على الجديد. وهذه مسألة بدت بديهية حيت تتراوح المسابقة بين اسماء فرضت نفسها في نهاية السبعينات الى بداية الثمانينات، وبين جيل جديد من المخرجين وجدو لذلك، أي جزء منهم تصنع افلامهم خصيصا لأحد هذه المهرجانات، وتُختار على الورق أو في صالات المونتاج، أو يكونوا مرشحين قبل حتى اختيارهم. اي أن اختيارهم يكون بشكل ما متوقعا، ولا يشكل أبدا مفاجأة.

سادسا، من المفترض ان الثقافة السينمائية يجب ان تذهب ضد تيار البهرجة. وهذا الفكر الشمولي الذي اصبحت تنتجه هذه التظاهر الكبرى والتي أصبح عند البعض تحسم  النقاش نحو المطلق إلى حد أنه يصبح ممنوعا، وان يطبعها الوعي النقدي اكثر من الانبهار، وتعويض نجوم التمثيل بمخرجين نجوم ينظر إليهم على انهم ليسوا بشرا، والمهم ان تصبح الثقافة السينمائية مُعَوْلَمة بشعارات رنانة  تحاول أن تظهرها بصورة مغايرة،  وتسير في مسار اقصاء طبيعي لمن ليس له وسائل الضغط لفرض وجوده بها، وحصر الابداع في اعتراف مؤسسات المهرجانات الكبرى.

سابعا، وجود سينما وطنية لا يبدأ من كان، ولكن يبدأ من قاعات بلدها، اي من لقاء جمهورها الذي وجدت له أولا، وبه،. فكون ان يكون فيلم مغربي في “كان” لن يحل ابدا معضلة التوزيع، ولا حتى مشكل الكتابة. لقد اختيرت افلام بعض المخرجين المغاربة في “كان”، ولم يغير من الوضع شيئا يذكر. قد يصبح الوضع غير ذلك عندما يكون حضور فيلم مغربي في المسابقة تعبير حقيقي على المستوى العام  للسينما المغربية وأن يكون للمغرب، البلد المنتج الحصة الكبرى في ميزانية الفيلم، وأن تكون هناك دينامية انتاج حقيقية قد تساعد على استغلال هذا التتويج، والقدرة على مد السوق الدولية بوتيرة مستقرة من الانتاج كما وكيفا.

ثامنا، اختيار الافلام للمهرجانات الكبرى ك”كان” لا يتم بالشكل المعروف والمعلن، أي ان تبعث فيلما، ويتم مشاهدته من طرف شخص أو لجنة، وبعد ذلك يتم اختيار الافلام المشاركة نظرا لحجم المهرجان. أي ان الاختيار يتم عبر قنوات اخرى من بينها الرهان على اسماء معروفة، كما سبق الاشارة لذلك أعلى هذا المقال، التي أصبح لها  اشتراك غير محدود مع المهرجان، بغض النظر عن مستوى الفيلم مقارنة مع الافلام السابقة لنفس المخرج.

ختاما، وجود سينما وطنية لن يكون نتيجة ارادة “تيري فيمون” مدير مهرجان “كان” أو غيره، ولكن هي ارادة المغاربة كدولة، ومهنيين وكمواطنين/متفرجين. لنا نحن أولا أن نصنع، وننحت رموزنا دون أن يملي علينا احد شروطه، وذوقه وسياسته، ولا يبقى لنا في الأخير إلا السمع والطاعة. من المفروض أن ننطلق  أولا من الصورة التي ننتجها عن ذواتنا، و ليس الصورة التي ينتجه عنا الاخر، أو نصنع صورة كما يريدها الاخر.

اذا كان يهمنا فقط الاختيار في مهرجان “كان”، فاعتقد أن لائحة الافلام التي اختيرت بين فقرة “نظرة ما” و المسابقات الأخرى، ومنها من حصل على الجائزة، طويلة. ربما عدد هذه الافلام يتجاوز عدد افلام مشاركة دول لها صناعة سينمائية اكثر من المغرب. اننا نعرف ولا نريد ان نعي ذلك ان هاته الافلام في حقيقة الامر لا تمثل السينما المغربية ولا المغرب إلا بجنسية مخرجها أو فقط بالأصول، بدرجة ريحة الشحما في الشاقور.

إن وجود سينما وطنية ليس مسألة اختيار في هذا المهرجان أو ذاك ولكنها قضية وجود صناعة وطنية وتقاليد انتاج بكل المقاييس، والأهم وجود نوع من التنافسية في السوق الداخلي أولا ثم افقيا وجود سياسة ثقافية للبلد ترسم الملامح العامة لاحتياجات البلد والشكل الذي نريد ان تكون عليه ثقافتنا. وجود سينما وطنية ليس مسألة تألق هذا أو داك أو تبنى في اخر لحظة،  لكنها مسألة ارادة جماعية.  فكرة يلتف حولها الجميع، يؤمن بها، يناضل عليها بشكل يومي. لن اضيف يضحي من أجلها لأن ذلك اصبح مضحكا في زمننا. وأعتقد وبنوع من اليقينية، أن سينمانا بالشكل الذي هي عليه الآن تنقصها الفكرة.

 في غياب ذلك نحترف طرح الاسئلة الخطأ، نخلط بين المشكل والإشكال. يتداخل ما هو قانوني مع ما هو ابداعي، ويتداخل النفسي مع الموضوعي، ويصبح محددا له. نعتقد أننا ننتقد العمل ولكننا في الحقيقة الساطعة ننتقد الشخص. مرة أخرى السؤال المغلوط لا يحتمل جوابا صحيحا.

محمد الشريف الطريبق

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X