خرق “التابو” في الفن.. ضرورة أم اصطناع؟

فريد الزاهي

يستطيع المشاهد في متحف الفن المعاصر بمدينة ليون الفرنسية أن يصادف هذه الأيام عملا فنيا في شكل فيديو معروض بلا توقف. يمكنه أن يرى فيه دجاجات حية مشدودة إلى حائط والنار تلتهمها واحدة واحدة. هكذا يعود عادل عبد الصمد، الفنان الشاب ذو الأصول الجزائرية إلى قلب “الفضائح” الفنية التي أثارها في ما قبل، في بلد صار له، منذ أن تحولت برجيت باردو إلى مدافعة عن الحيوانات، تقليد عدم التعرض لها بالأذى، هو البلد الذي يعيش فيه أكثر من خمسين مليون حيوان أليف في بيوت الناس، متمتعة بأكل وملبس وتطبيب لا يصل مستواه أناس إفريقيا وأمريكا اللاتينية العاديين.

وبالمغرب، في الأسابيع الأخيرة، أثيرت ضجة لقيت صداها في الصحف بالأخص، عن منع عرض لوحة للفنانة العصامية خديجة طنانة تصور فيها الأوضاع الجنسية حسب تقليد الكاماسوترا، في معرض جماعي بمدينة تطوان شمال المغرب. والمعروف أن هذه المدينة احتضنت منذ أواسط الأربعينيات مدرسة عريقة للفنون معروفة باتجاهاتها التشخيصية، وتخرَّج منها أهم الفنانين التشخيصيين والرسامين الذين علا كعبهم في تصوير المناظر الطبيعية والجسد الآدمي في جميع وضعياته.

إنهما حالتان ينحو فيهما الفن إلى التصوير المرعب لحالات قصوى، من جهة، وإلى متاخمة المحرم البصري في البلدان الإسلامية، من جهة ثانية، مما يطرح بشكل واضح مرة أخرى حدود التعبير الفني ومجازاته البصرية ووعيه ولا وعيه…

العنف في الفن منْ عنف الفن

تعج اللوحات الكلاسيكية والرومنسية والرمزية والاستشراقية في متاحف العالم بمشاهد الأجساد المبقورة والدم وحكايا القتل والعذاب. ويكفي في هذا المضمار أن تكون الصورة المؤسسة لأسطورة المسيحية وهي تظهر ابن الرب نفسه مشدود اليدين والرجلين إلى صليب خشبي بمسامير حديدية بارزة الرأس والدم ينز من جراحه، كي ندرك أن العنف البصري للصورة والتصوير في التقليد الغربي أمر متداول. ولذلك فإن الأطفال حين يزورون هذه المتاحف أيام الآحاد والعطل رفقة آبائهم أو رفاقهم في الفصل، لا تثيرهم من الناحية الأخلاقية هذه المشاهد التي تبرز العذاب والتعذيب والقتل والتقتيل إلا باعتبارها أمثولات allegories يلزم منها استخلاص دروس وعبر التاريخ الفعلي والرمزي المقدس. كما أن الشباب المسيحي وهو يقرأ حكايات عذاب أيوب ويوسف في التوراة، لا ينظر إلى هذه القصص إلا باعتبارها عنفا مقدسا يبيح للخالق أن يربي أجيال المخلوقين على الاعتبار وخشية الخالق. فلقد أبانت دراسة عالم النفس الاجتماعي الفرنسي  سيرج تيسيرّون: “محاسن الصورة” أن الأطفال وهم يشاهدون أفلام الرعب بل ويدمنونها لا يشكل ذلك أثرا سلبيا عليهم. إنه بالعكس، ومن خلال تحويلات نفسية معقدة، يعضد شخصيتهم، خلافا للرأي الشائع لدينا.

أغلب هذه التصاوير التي تزخر بها المتاحف، والتي تؤرخ للتاريخ المقدس والدنيوي، تدفع بالعنف إلى أقصى حدوده. لنأخذ مثالا وحيدا، لوحة كارافاجيو بعنوان “جوديث تذبح هولوفيرن (1598)، حيث يظهر شخص وهو يتعرض للذبح بدم بارد من قبل امرأة، ليتبدى لنا أن من حق التاريخ أن يكون عنيفا بفنه. المشهد نفسه سيعاد تصويره على يد امرأة فنانة هي أرتميزيا جنتليسكي بشكل أكثر عنفا وضراوة. كان كارافاجيو عنيفا، فقد كانت له مشادات دامية مع رجال الشرطة، واعتدى على أشخاص آخرين وقتل رجلا، وهو ما يبرر ربما بشكل مباشر درجة العنف التي تميزت بها بعض لوحاته.

هل العنف فضائحي؟ هل ثمة أخلاقيات في الفن؟ وهل ترتبط هذه الأخلاقيات بالموضوعات وطريقة المعالجة أم بأمر آخر؟ ومن ثم ما هي قواعد هذه الأخلاقيات التي يمكن أن تتحول إلى قوانين. لن نسير بعيدا في هذا النقاش، لنكتف بتجربة البودي آرت أو الفن الجسدي.  ففي هذا الفن غدا الجسد مادة خاما للإبداع يسير بالفضائحية إلى أقصى حدها: علاقات جنسية جماعية، استمناء، مشاهد سادومازوشية أو متعلقة بالفضلات، سلخ الحيوانات وإخراج أحشائها، استعمال البراز والبول وتناول مواد عفنة، خلال طقوس ماجنة. ففي 1971، في المنجزة الفنية “الاختبار القاسي”، تجرَّد  غنثر بروس تقريبا من ثيابه، وقام بحز جسده بموسى حلاقة، بحيث جعل الدم من جسده لوحة.

صار البودي آرت في السبعينيات أكثر راديكالية وعرف انتشارا عالميا، بحيث إن ثُلَّة من الفنانين استعملوا بشكل مُمنْهج الجرح أو تعذيب الذات مثل كريس بوردن Chris Burden، وجينا بّان Gina Pane ومشيل جورنياك Michel Journiac. وهكذا، تعتمد جينا بّان غالبا على حزّ بجسدها مما يؤدي إلى إحساس بالألم. وأغلب منجزاتها الفنية تُعتبر تعريضا للجسد إلى التشوه بشكل فاضح، وهو ما جعلنا نفكر في حدود الألم وحدود الإحساس، بل وحدود الفن. ففي منجزة “حليب ساخن”، مثلا ظهرت متدثرة بلباس أبيض، وناوبت بين حزّ جسدها بموسى حلاقة واللعب بكرة تِنس على جدار. ثم إنها حزّت وجهها قبل أن تتناول كاميرا وتصور طويلا الجمهور متوقفة عند ملامح بعض الأشخاص، مندِّدة بذلك بالسكونية الاجتماعية إزاء العنف، واللامبالاة أمام الرعب، وتخدير البصر.

من ناحية أخرى، يشكل الجسد العاري أساس فن التصوير الغربي، منذ الإغريق. إنه الجسد الذي لا يثير أحدا؛ فالعري في الفن الغربي مجال للفكر والتفكير والتعبير أكثر منه مجالا للمتعة الجنسية. وحتى حين صور  إدوار ماني لوحة الأولمبيا بجسدها العاري كان يسعى إلى إخراج الفن من هيمنة الكنيسة ونظرتها الطهرانية. أما غوستاف كوربي فصار أبعد من ذلك في لوحة “أصل العالم” التي أثارت ضجة كبرى بحيث حولت حِرّ المرأة إلى رمز كوني يتجاوز طابعه الجنسي الصرف.

حدود الفن في قلب السؤال

من هذا لذاك، من عنف الصورة إلى صدمتها الآسرة، نجد أنفسنا أمام مسير فنان مشاغب هو عادل عبد الصمد، يبني عالمه الفني على الإدهاش الصادم. فلقد أثار ضجة منذ سنوات في معرضه الاستعادي بمتحف بوبورغ، كما أثارت منحوتته التي يصور فيها زين الدين زيدان يوجه ضربة إلى رأس أحد اللاعبين. الأمر نفسه بدولة قطر منذ بضع سنوات، بحيث تم منع عرضها في منطقة كتارا بالدوحة.

هذا الفنان الجزائري الشاب المشاغب، يحول العنف في الفن إلى مجاز عسير الهضم، يسعى من خلاله إلى تعرية نظرته للعالم ومن خلالها إلى جرّ المُشاهد إلى طرح السؤال عميقا في ذاته. العنف هنا بصري لكنه يتحول إلى سؤال حارق في الذهن. فالفن كما الأدب مجال لخرق الحدود. يكفي أن نقرأ أخبار الحروب في المظان العربية ومن قبلها في ألف ليلة وليلة لتكون الصور التي يتم تشكيلها باللغة خارج حدود الحس البشري. كما أن الكتابات الإيروسية العربية التي كتبها فقهاء وائمة، من قبيل “الروض العاطر” للنفزاوي، و”رشف الزلال من السحر الحلال” أو “جوامع اللذة” للسيوطي و”نواضر الأيك في معرفة النيك” المنسوب له، وقبلهما ألف ليلة وليلة، تحبل بمشاهد تتجاوز كثيرا الكاماسوترا أو أفلام  الخلاعة المتداولة حاليا في العالم الأزرق. بل أجازف بالقول أن الصور الذهنية التي تثيرها في الكتب كانت أعمق أثرا من الصور الإباحية العارية التي تسري اليوم في الأنترنيت كما يسري الهواء في أجسادنا.

يقترب الجنس كثيرا من العنف ويشكل على نحو ما ظلا له. فالعري الجسدي صادم في ظروف صار فيها الفقهاء ومعهم عامة الناس يرون في رؤية شَعْر المرأة ويديها ورجليها مثارا للفتنة. الجسد كما العنف بجميع أشكاله يشكلان فورة للمعنى تعجز النظرة المحافظة عن التمييز فيه بين الواقعي والاستيهامي والفني. هكذا يبني المشاهد سلطته على الفن في وقت عودة المقدس والديني وسلطتهما السياسية القاهرة والاختزالية، مُماهيا بشكل قسري بين فضاء الفن بحريته وفضاء الواقع بتشريعاته وإكراهاته. فلو لم يكن مبدأ الرغبة والحرية جوهرين للفن، لاكتفينا بالواقع بضروراته وإكراهاته.

لنذكّر فقط أن فنانين عرباً كثيرين كمحمود سعيد في العقود الأولى من القرن الماضي صوروا الجسد عاريا من غير أن يثير الضجة التي يثيرها اليوم. ولنذكِّر بأن الخطاب البصري واللغوي عن الجنس لدى العرب كان، كما أكّد صلاح الدين المنجّد، ممهورا بالتحرر وهو الأمر الذي لا نعيشه في أيامنا هذه الموسومة بالنكوص والتراجع.

بيد أن عادل عبد الصمد إذا كان له مشروع فكري فني يسير به حثيثا ضد التيار منذ سنوات، فإن “خرجة” خديجة طنانة تتطلب أكثر من سؤال: هل تكفي لوحات من قبيل هذه ومسير فني غير متبلور بما يكفي، ولا يحمل مشروعا فنيا بارزا، أن يفرض خرق الحدود، ويجعل من نفسه مجالا لنقاش يعضد حرية الفن؟ فالخرق كما يقول جورج باتاي يلزم أن يكون في قوة القواعد والمحرمات المخروقة.

لأقل ببساطة: إن حرية الفن تنبع من قوته الجمالية أولا قبل أن تتكئ على موضوعاته… فالموضوعات مطروحة في الطريق كما قال الجاحظ، والشكل الفني والجمالي هو السبيل الإبداعي الأسمى إلى خرقٍ يصير قاعدة مقبولة تمنح الممارسة الفنية العربية أفقا أرحب…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X