التهامي النادر عاشق الصورة الفوتوغرافية الكاشفة عن لحظات ضوء من قلب العتمة
زهور السايح - الدوحة
صور تنبثق مجللة بضوء خافت من قلب سواد فاحم، بتفاصيل ضوء وظل وحركة كامنة حينا، وطاغية حينا آخر، مفعمة بدلالات إنسانية. وقد أمسك بها الفنان المغربي العالمي الصيت، التهامي النادر، ضمن ديمومة لحظات ضوء تشع من قلب العتمة، فارا بها من قدر موتها الحتمي الذي قد يُغيِّب، في جزء من ثواني، فورة حركيتها ودلالاتها، وما تحتمله من جمال أو قبح.
يقول النادر، الذي كان يتحدث عن أفق وملامح تجربته الفنية في جلسة مكاشفة استضافها مؤخرا المتحف العربي للفن الحديث بقلب المدينة التعليمية بالدوحة، إن فعل إنجازه الفني بحث دائم عن ذلك الضوء الكامن في قلب العتمة، وعن جمال يمكن التقاطه حتى بين القبح وفي لحظات رعب وأماكن يرتفع فيها منسوب الخطر والخوف والارتباك.
ويبدو أن الجمال، بالمعنى الذي يرنو له بتجربة استغرقت أكثر من 40 عاما، لن يكون شيئا آخر غير تلك الرسالة التي تنقلها الصورة. إنه بالضبط ما يحدسه بفطرته الإنسانية وذاته الفنية موضوعا قابلا ليستوطن إطارا، وينقل فكرة وإحساسا وتجربة وانفعالا قابلا للتقاسم.
ومن هذه الزاوية تغذو الصورة، برأيه، فعلا وإحساسا وفكرة مرتبطة بالزمن، تسكنها الحركة وإن بدت متجمدة. ويغدو نجاحها وجمالها في مدى قدرة الفنان الملتقط لها على رصد الحركة وتوثيق امتدادها وجعلها في قلب المشهد، بل في أوج دلالته، لتكون متاحة بالقدر ذاته للمتلقي.
وبالتأكيد، لن يكون هذا المتلقي فقط الآخر؛ المفارق لهذا العمل الفني. وإنما منجزه أيضا، الذي سيعود إليه لا محالة بين الفينة والأخرى. باحثا عن لحظات فنية هاربة منه، في تجربة راكمها، منذ أمسك بكاميرا التصوير وهو في سن الحادية عشرة من عمره.
يرفض النادر، الذي يعتبر من كبار فناني الصورة الفوتوغرافية المعاصرين، التصنيفات الجغرافية التي تقزم الفنان في دائرة محدودة. هو مغربي الأصل والمولد، احتضنت أزقة المدينة القديمة بالدار البيضاء جلبة طفولته الأولى، وترعرع مراهقا وشابا وكهلا في فرنسا، لكنه بالتأكيد، إنسان وفنان بامتداد العالم وشساعته. ولا ينتسب، في هذا الخضم، لمدرسة فنية معينة، غير حدسه الفني ومهارته في التقاط ضوء اللحظات الهاربة.
قناعته كفنان وممارس، خبر فن الصورة قبل أي شيء آخر في الحياة، أن مركز قوة الصورة يقظته الدائمة لتدارك تلك اللحظات الفارقة في كثير من تفاصيلها، وأيضا في اختيار زوايا التقاطها. إنه غزو من دواخله لموضوع خارجي، وليس العكس. وما الآلة إلا عنصر وسيط. أهميتها لا تعدو ان تكون ممرا يتحول منه الكشف الداخلي الى الخارج، فيما يمكن ان يكون مجرد “حالة مرصودة”، لكن تفاصيلها الفنية وجمالياتها ودلالاتها الإنسانية والقيمية، هي بالدرجة الأولى نتاج لتلك العلاقة الجدلية بين الذات الفنية والموضوع الخارجي.
التصوير بالنسبة للتهامي النادر، الذي توجد أعماله في متاحف عالمية كمتحف استوديو هارلم بنيويورك، ومتحف الفن المعاصر بأكيتان في بوردو (فرنسا)، والدار الأوروبية للصورة في باريس، لا يتم بناء على فكرة مسبقة، بل فعل ينبثق عن لحظة انجذاب صدفوية. تلك اللحظة الفنية أو البارقة وسط تشابك التفاصيل، هي من تنحت موضوعها. وهي في الأساس اكتشاف وكشف، تنسلخ جزءا منه كإنسان وكذات فنية غير مفارقة له، ليبلغا معا مدارج الاندغام والحلول.
موضوع الصورة قبل أن يستوطن حضن تلك العلاقة الخفية بين البياض والسواد ليصير مرئيا وخالدا، قد يكون غير ملحوظ أو في حكم العادي والعابر لدى الآخر.
فكثيرة هي المرئيات التي تملأ البصر والذاكرة، ولكن بعضها أو القليل منها ما يدفع في لحظة انكشاف فني التهامي النادر الى التقاط كاميرته وتصويبها نحو الهدف ليخلق منها حدثه الفني، وموضوعه، ورسالته الى ذاته قبل أن تكون موجهة الى الآخر. شغف فني ورغبة في تحقيق إشباع ذاتي، لا يكون الآخر المتلقي بالتأكيد منتهاه أو محركه أو مستهدَفه الأساسي.
الكاميرا بالنسبة له نافذته على عالم أكثر اتساعا مما يتراءى للآخرين. عالم تسكنه التفاصيل في دقتها. كل تفصيل ضمن أجزاء من ثانية يتم فيها الضغط على زر آلة التصوير لتخليده، يصبح عالما بحد ذاته، اختزال يكتنز أرومة وجينة الأشياء والدلالات والمعاني.
تسكن القيمة الإنسانية في قلب كل تفصيل وجزئية، وعندما تنقل الصورة لحظة عنف أو ما يومئ إليها، فإنما لتقنع، برأيه، أنها في حكم الممقوت، وأنه لا بد لها أن تخلف الشعور نفسه لدى المتلقي. رسالة قد تحمل معاني أخرى وتعري بشاعات تحتاج الى مؤازرة والى فعل للتغيير، يقودها فنان العدسة بعفوية، لأنه لا يملك غيرها من وسيلة للمؤاخذة والاحتجاج والرفض والمطالبة. لكلٍّ أدواتُه، وأداته هو فنية راصدة، تخاطب من يمتلك شفافية الالتقاط، ويحسن قراءة الصورة وما وراءها.
فعندما ينقل، في أحد أهم مشاريعه الفنية، “العالم السفلي” لمدن في قمة التقدم كمدينة نيويورك، خاصة عند محطة المترو وأرصفته وزواياه الخبيئة وأقبيته المظلمة حينا، إلا من أشباح إنسانية تعيش ظلم الإهمال والتشرد والفاقة والغربة والمهانة، فإنما ليكشف عن حالات إنسانية. وليومض، من خلالها، بعض الضوء على أشكال معاناة تقبع خلف دوائر الإنارة في ظلام مغيّب، بعيدا عما يستحقه الإنسان من كرامة العيش، في مقابل عالم علوي يتنسم الرفاه والبذخ بأشكال مختلفة.
وتحكي صوره عن هذا العالم الخبيء، في تكدس وتقارب الأجساد الى بعضها عند النوم أو السهاد المقيت، في أوضاع مختلفة جنينية أو ما يشبه الجلوس أو القرفصاء، عن ضيق العالم أمام هذه الفئة رغم رحابته.
وتكشف في ذات الوقت عن قصة فقد مريرة مشتركة بين أصحاب هذه الأجساد. تقودهم في لحظات غياب او توجس من خطر خارجي الى التوحد في ما بينهم بحثا عن دفء وهوية وجود مفتقدتين.
تفيد الصور بأن في هذا التقارب محاولة للتآزر بين أكوام أجساد لا يملك أصحابها هويات مادام لا سقف يأويهم ولا خصوصية تحمي آدمية كل منهم.
ويغدو التقارب بهذا المعنى الذي تفيض عنه الصور بحث يائس عن بدائل في أغلبها هشة، قريبة من تلك القشة التي لا تملك أن تقود الى بر الأمان، ولكنها تكتنز بالأمل والتمني في إمكانية أن يتحقق بها ومن خلالها ولو القليل من الحماية المفتقدة.
يصر النادر في حديثه، الذي كان باللغة الإنجليزية في هذه الأمسية التي ارتأت مقاربة “روح الأمكنة والإضاءة” في صوره الفوتوغرافية بالأسود والأبيض، على أن مشروعه الفني هو البحث في ذلك السواد الذي يعطي عند نهايته الإضاءة، هو البحث في ما وراء ذلك الانغلاق المظلم الذي يشع من الداخل.
فالسواد في عرفه، وقد مهر أسرار الصورة الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، قنطرة مرور نحو إضاءة في شفافيتها تنقل حقائق وتمهد لاستيضاح بعض من خفايا.
وبهذا المعنى يصير السواد والعتمة لدى النادر طريقا نحو تعرية الأشياء والكشف عن فحواها. وتكون الصورة الفوتوغرافية، في جدلية سوادها وبياضها، سبيلا لتفجير المعاني وفك اسرها من قبضة الغياب، وانتقالا بها الى ذلك الحضور الشفيف، الذي وإن لم يُحدس بوضوح مصدرُ إضاءته فإنه يغشى المتلقي ويقتحمه في غفلة منه، منبعثا من عدم ليحمله إلى عالمه المكتنز بالمعاني والجمال.