الفنان التشكيلي علي البزاز: الانبثاق من الفن كما الانبثاق من الشعر
في ميدان الإبداع، يوجد أمر لا مجال للتنبؤ به إلا نادراً. لأنه ينتصب شبيهَ دفقة قوية من عواطف متفردة تستدعي حضور الخلق الفني. والفنان علي البزاز اختبر التجربة، فكان التوفيق حليفه في نهاية المطاف. توفيق يُعَد بمثابة انفتاح فسحة مُشْرعة للاستثمار في الإبداع.
فهو يكتب الشعر منذ أمد بعيد، باللغتين العربية والهولندية، ويمتهن عمل صحفيٍّ جاب سُبل الكتابة في مجالات الإبداع المرتبطة بالقلم أدباً، وأيضا المتعلقة بالفرشاة والإزميل. أي الفنون التشكيلية التي تظهر عند مشاهدة فنه أرضاً استكشفها كتابةُ وتمكن من فك رموزها المُسْتغلَقة.
نتيجةً المعطيات المذكورة آنفاً، وتبعا لأمر وحي طاغٍ، وجد الفنان نفسه يَقتطع مساحةَ في الفن التشكيلي داخل تيار التجريد بما يستطيعه من تعبير عن أحاسيس جياشة على طريقة الفنان المؤسس كاندينسكي الذي نَظَّر لهذا التيار بكونه لحظة استغوار لما يعتمل بقوة في باطن الذات. بعد ذلك، وفي فترة أولى، وتوافقاً مع علاقة شعور مخصوصة بالألوان، انبثقت البذرة حين رافق فنانا عراقيا معروفا في مشتله الفني. ثم في فترة ثانية وخلال رحلة ألى مدينة شفشاون، خلبته مشهد ركام صباغات بألوان مختلفة، فاقتنى منها كميات محددة.
هكذا ستنبعث تجربة فنية فريدة مطبوعة بما هو أصيل فطرةً، أي أنه كان مخبوءا لفترة قبل أن يتبدى مثل إيحاء طبيعي. ما يلاحظ هو أن الفنان لم يكن مضطرا تقريبا للخضوع لفترة استجلاء قبلية. فقد عوضتها فترة تأمل فعلية خالصة ً ومتفردة ًتزاوج عملا تشكيليا فنيا على الخشب والخشب المرقق contrepalqué والقماش. مستعينا في ذلك بسلسلة ألوان مختارة، وبشكل إرادي، في غالبيتها جهة الدُّكنة، ومُختلقا أشكالا مُقتصرةً كما وتنوعا، لكن دوماً حسب تقنية تَمَكُّنٍ عاليةٍ تعتمد على مَد اللون وبسْطِه، وعلى سلوك المحو، كما تستند على التركيب والحَكِّ، مما يُظهر الخُدوشَ المستحدثة والجغرافيا التضاريسية التشكيلية الصغيرة المُكَونَة.
ويتأتى كل هذا عبر حركية متأنية وغير متعجلة، حركة متجانسة وذات وتيرة واحدة. أعمال فنية مشفوعة بحساسية هادئة ومُلَطفة. ويبدو أن الفنان قد اشتغل في خفاء متعمد قبل أن يدلف دائرة الضوء. وقد وقع الاستناد من طرف الفنان على اللون كمفهوم طاغ ومُعْلٍ من القيمة المرجوة تمتد إلى المساحة الكلية لكل لوحة، ولكن تبعا لميلوديا ترتيب يتفرد بها الفنان وحده. بصفة محددة، نرى في فن علي البزاز تركيبا فنيا يستخدم لغة تشكيلية يتملكها باقتدار حيث “التصوير الصباغي يتبدى شعرا في أغلب الحالات. أليس اللون موجودا كي يدلي وبضربة واحدة بكل عمقه داخل خطاب اللوحة ؟” كما توقع الشاعر الفرنسي الكبير إيف بونفوا.
منذ البداية اكتسى الخطاب لدى الفنان بزي مُقاربة ذات معنى مُتمحورة حول تقفي الأثر. المِلونة تغترف من غور يسود فيه المنحى المُظلم بقَدر ويطغى في ثناياه الداكن المُلَطف عموما، ذاك الذي سرعان ما تُعْدِيه تموضعات لطخات باردة تؤثر بكَمٍ أقل أو أكثر حسب توازنٍ لا ينسى أنه نابع من رؤية فنية مطبوعة بالتقاط كل ما هو باهت، كل ما هو عُرضة للإهمال والنسيان.
إذن فن علي البزاز يتنسم ما يتوفر على خاصية الأثر الدال، ويتوفر في ذات الوقت على خاصية الحضور. هو ذا الطابع وأيضا الثيمة الطافحة بالصدق الإبداعي لهذه التجربة الموسومة ببداهة كينونة تجزؤها خدوش الزمن. مع اعتبارها كينونة في حالة الذبول والذوي لكل ما يحيا وفي نفس الآن لكل ما يؤثر بقوة في أعماق الذات. هي هذه التعرية كما في التعريف الجغرافي التي ينحتها مرور الوقت الذي يطال الأشياء والوجوه. ويدل هذا المعطى على أن الفكرة (فنيا) كانت قابعة أصلا في ذهن الفنان علي البزاز كما في تخريجتها الفنية على لوحة. لا وجود لارتجال هنا، ولكن قفز مباشرة نحو التحقق الفعلي للانطباع الشعوري الكامن. وقد عثر عليه علي البزاز في الأبواب العتيقة المتروكة والنوافذ القديمة المهملة، في شكلها الكامل أو في أجزائها المركبة لها. يخترع لها أماكن تواجد أخرى، وظائف جديدة تعيد لها القيمة مانحاً إياها طابعا فنيا.
لا يتردد الفنان في إدماج كل جزء من مفتاح أو قطعة من قفل في اللوحة أو على سند خشبي، أو في قطعة خيش. أو أي عنصر يُمَكِّن من إضافة قدر من لُبْس مرغوب فيه وذي معنى لكَونٍ موجود قبلا. كل هذا يأخذ خاصية وجود مُنبعث في وجود جديد من خلال آلية إعادة الحياة إلى ما كان سائرا نحو الزوال.
ينبني عمل الفنان علي البزاز على مهمة التدوير الانبعاثي للزمن بفعل قوة الفن التشكيلي من خلال الأجزاء المرمية، المدعوكة، الدانية من الاندثار، الذي يتعالق وفقدان النظارة، وذاك ما نشاهده في كامل تألقٍ موضوعٍ في الجهة الأخرى للنور. إضاءة جمالية للوجود عبر ما يُتْرك جانبا، خلف المسير الروتيني للأيام. العمل الفني الذي ينتج في المحصلة النهائية يتًزيَّ بصفة عمَادُها مُقاومةٌ للإبادة. مع دَمْغِ فنيةِ العمل بالصبغة الخريفية التي ليست سوى دورة في سلك حياة لما هو مرئي.
لا يتعلق الأمر بالنهاية الحتمية. ولكن بما يسبق بداية جديدة. كل فن التصوير للفنان علي البزاز يمنح المعنى للذابل. ليس هذا وحده الهدف المتوخى. لأن الفقدان، أو الضياع، يَطال كل شيء، ويَسْتَدعي اختبار سجل ألوان معين. لنذكر مثال لوحة بأبعاد تتجاوز المتر طولا، تفرض وجودها كلوحة باللون الصدئي الذي يهيمن على كامل مساحتها. فيها تجانس وظيفي هو بمثابة إنجاز فني حقيقي. ولنتحدث عن مثال ثان: لوحة تمثل جُماعا متوازنا لألوان محايدة يخترقها في لحظات معينة الأخضر والأصفر اللذين يستحوذان على جوهر الأشياء بعد انمحاء نور النهار، نور الحياة.
هذان المثالان، نضيف إليهما آخر ما تفتقت عنه تجربة علي البزاز الفنية، حين منح الحياة للوحات حديد استقدمها من مطرح، والتي سهر على عملية حكها وشرخها بخطوط قبل أن يسجنها في رقاقتي زجاج صلب وشفاف ملتصقتين الى الأبد.
لا يَني هذا الفنان الموهوب من البحث. فبما أن يده لا تفترق عن قلم الكتابة، فهو يستعيد العلاقة بالحبر، ليس لتدبيج نص أدبي شعري في فترة توقف إرادي، بل لخوض مغامرة فن الغرافيك. هذا الفن المُتموقع بين مجالين إبداعيين، المكتوب والصباغي. هو ميل آخر نحو الأثر. أي أن البصمة المنطبعة تظل سالمة دون التغاضي عن تغيير الأسناد والأنواع.
مبارك حسني
كاتب وناقد