محاولة لفهم الفيلم الوثائقي
يرادف الفيلم الوثائقي السينمائي ضمير المتكلم، بعكس الوثائقي التلفزيوني الذي يعبر عن وجهة نظر تحرير قناة ما. بمعنى أخر، الفيلم الوثائقي السينمائي يكون المبادر فيه الأول والأخير هو المخرج/المؤلف.
إن انجاز فيلم وثائقي روائي سينمائي، أو ما يصطلح عليه بالفرنسية الفيلم الوثائقي الابداعي (documentaire de création) ، أو بشكل عام الفيلم الوثائقي السينمائي، يفرض على مخرجه بمناسبة كل عمل جديد أن يبدع رؤية اخراجية جديدة تتماشى مع الموضوع المتناول والواقع المصور وخصوصياته، أكان حدث ما أو تصويرا للحياة يومية، أو تركيبا يمزج بين الوثيقة وبعض اللحظات من الحياة. يجد المخرج نفسه مجبرا على التخلي على الأفكار المسبقة، والتخلي مؤقتا عن ما راكمته تجربته من معرفة، وافكار وتعلم، مقابل الانصات إلى الواقع لإعادة اكتشافه، ومن تم ابداع “لغة” لمقاربته وتصور تدابير فنية إجرائية لتسهيل اقتناص هذا الواقع، والقبض عليه.
تتميز السينما الوثائقية عن السينما الروائية، أو السينما الروائية ببعد وثائقي، بأن بناءها يتهيكل على تأمل الواقع أولا قبل تسجيله، الشيء الذي يؤدي إلى خلق علاقة جدلية بين الواقع، وبين الكتابة السينمائية، ما يجعل الفيلم الوثائقي يبتعد عن النمطية والابتدال، ويجعله في تطور دائم، ومتجددا بالضرورة.
يجعل الشريط الوثائقي السينما المعاصرة تستعيد نوعا من طراوة البدايات، وبالتالي التجدد بحكم ان الوسائل التقنية التي توفرت إلى حدود الخمسينات لم تسمح بها الا عبر “ميزانسين” معين، أي بإعادة التمثيل.
جعلت ظروف الحرب الواقعية الايطالية الجديدة واختراع الناكرا/Nagra (آلة تسجيل الصوت) وكاميرات خفيفة يمكن حملها بسهولة، السينما تغادر أسوار الاستوديوهات وتخرج إلى الشارع، تحاول أن تصور الحياة كما هي، الشيء الذي استمر وأصبح ممكنا ايضا مع ظهور الكاميرا الرقمية التي جعلت التعبير السينمائي متاحا كالكتابة.
إن توفر الوسائل التقنية بشكل يتيح للجميع التصوير بنفس الجودة واختفاء الحدود بين التصوير الهاوي والاحترافي يدفعنا إلى التساؤل عن ماهية السينما ومتى يصبح ما نصوره سينما. ربما تبدا السينما حينما توجد مقصدية ما، أتعلق الأمر بلحظة التصوير أم لحظة المونتاج، إن اللقطة، كلحظة مقتطعة من الواقع بفعل التسجيل، تأخذ هويتها كلقطة سينمائية، أي كوحد سردية سينمائية، إما خلال فعل التصوير ذاته، واما في لحظة المونتاج. في حالة اعتماد الفيلم على الارشيف أو لقطات صُورت بدون أي مقصدية لمصورين هواة، لا تختفي وراءها أي فكرة إلا تثبيت ذكريات ليس إلا أو غير ذلك.
يتدخل “الميزانسين” في هذه الحالة في مرحلة التركيب، ليعيد قراءة المادة المصورة بشكل مستقل عن مشروع الفيلم البعدي، بالشكل الذي يعطيها وضعا داخل المتتالية الفلمية، ويضيف إليها طبقات من المعنى. في هذه الحالة لا يحاول الفيلم ان يخفي عيوبها التقنية، ولكنه يدمجها في بناء العمل كجمالية مغايرة تساهم في خلق تنويع أسلوبي أو يوهم بواقعية الحكي، أو تستعمل لكونها بقايا لحظات نادرة، قد يعتمدها الفيلم كليا كما في فيلم المخرج الألماني فرنر هيرتزوك “كريزلي مان” 2005، حيث قام الأخير بالحصول على شرائط صورها تيم تريدويل بنفسه بعد موت الأخير على اثر هجوم احد الدببة، التي كرس حياته للدفاع عنها، واقتصر تدخل المخرج هيرتزوك على مرحلة ما بعد الانتاج، أي انطلاقا من المونتاج، واضافة التعليق وباق عمليات ما بعد الإنتاج الأخرى. في كل الحالات، السينما توجد عندما توجد مقصدية أو نية مبيتة لاستعمال الواقع لكتابة نص سينمائي ما. الشيئ الذي لا يعني أن هذا الواقع يستعمل فقط كتوضيح لخطاب ما سابق على فعل التصوير، ولكن أن يستعمل هذا الواقع في حد ذاته لغة تزاوج بين خصوصياته وبين صيغته في الخطاب السينمائي.
في الفيلم الوثائقي، يتجاوز “الميزانسين” المفهوم التقني البسيط إلى مفهوم اشمل، ويجعل من المخرج مؤلفا بالفعل، ينتقل به من تقني يقوم بترجمة سيناريو سابق الوجود إلى صور، إلى تصور عام تتداخل فيه الكتابة مع الاخراج، حيث يصعب الفصل بين لحظتي الكتابة والاخراج من خلال تأمل الواقع وابتداع تصور مكتمل وسينمائي بامتياز. إننا عندما نكتب الشريط الوثائقي، لا يعني ذلك بالأساس كتابة السيناريو، ولكن أولا تخيل تدبير تقني وفني (Dispositif) يُسهل عملية اقتناص الواقع وفق فكرة فنية وتصور معين. قد يعاب مثلا عن فيلم وثائقي ما بأنه مصطنع لكونه يستعمل “الميزانسين” بشكل مبالغ فيه أو لكون “الميزانسين” في الفيلم يكشف بشكل جلي عن ذاته، حيث أنه يجب ان يبدع في التخفي ودون ان يذهب بعيدا في تحوير الواقع واستعماله في سياق يقطع مع سياقه. إن التدخل في الواقع واعادة صياغته يجب أن يراعي اخلاقيات تجعل من المادة المصورة تتمتع بنوع من الاستقلالية.
يفرض الفيلم الوثائقي على مخرجه أن يكون في المكان المناسب، واللحظة المناسبة، لأن الاشياء لا تحصل مرتين، وحتى وإن كان الأمر ممكنا فإنها لا تحصل بنفس الشكل. اقتناص لحظة في الفيلم الوثائقي، لحظة لا تتكرر، و”الميزانسين” هنا لا يعتمد على اعادة تمثيل “الجريمة” ولكن التواجد لحظة وقوعها، بالشكل الذي لا يؤثر هذا التواجد على مجريات الأحداث. وبالتالي يضطر ذلك المخرج إلى التخلي عن جزء مهم من الخطاطات السينمائية المتعارف عليها (التقطيع التقني مثلا) والالتزام باختيارات فنية معينة، وحتى التخلي عن معايير جمالية السينما(تكوين الاطار حسب قواعد التركيب التشكيلية، توفر اضاءة بالشكل الكافي والمعبر، صورة بجودة …) ومحاولة جعل ما تفرضه لحظة استعجالية كظروف الحرب في أقصى الحالات من لغة مرتجلة إلى جمالية بديلة. فقدان التوازن في عمل ما بين الشكل والموضوع، ولو ان الفصل ليس إلا نظريا، يجعل اللغة تتوتر لأنها لا تستطيع أن تواكب، وبالتالي عندما تتخطى الصعاب ربما بالتنازل والارتجال، تكون قد حققت قفزة ما نحو الابداع وتقترح فرجة مغايرة.
جعل تطور السينما والفيديو من الناحية التكنولوجية الصور المتحركة لكل فترة زمنية نسيجا معينا، وبالتالي اختيار استعمال نسيج ما هو في حذ ذاته تأريخ قد يجعل المشهد مستقلا بذاته، ويعفي من تعليق وكتابة على الصورة وتموقعها في الزمن. إننا نفرق بشكل بديهي بين صور مصورة اثناء الحرب العالمية الاولى والثانية، نفرق بين صور حرب الفيتنام، وحرب الجزائر مثلا من حيث طبيعة الصور ونسيجها، نميز بين ثمانينات القرن الماضي، والسبعينات من حيث جودة الصورة من حيث غياب اللون أو حضوره، وحتى من حيث اللون في حد ذاته. إذ تختلف الألوان من عقد إلى اخر، كما تختلف درجة التباين بين الاسود والابيض مع تطور الفيلم الخام من حيث حساسيته والتباين(Contraste) وتطور العدسات.
الفيلم الخام والكاميرات ودرجة حساسياتها.
تأتي الصور في الربورتاج حينما لا يكون هناك شخص يتحدث، أي تعليق. تأتي الصور صامتة بكماء أو على الأقل فقيرة من حيث المكونات الصوتية. استعمال الارشيف في الفيلم الروائي يأتي مبررا من داخل الحكاية وحتى قبل وجود الفيلم، ويأتي كنوع من التوضيح أو رسم الإطار التاريخي للحكاية في الغالب واضفاء نوع من القوة على العامل المحفز للحكاية، وبعض مآلات الشخصيات. يبدأ الفيلم “الميترو الأخير” 1980 لفرانسوا تريفو بمونتاج لصور اجتياح الجيش الألماني لباريز سنة 1944، الشي الذي سيترتب عنه اضطرار مدير مسرح صغير بمونمارت لوكا شتاينر إلى الاختفاء لكونه يهودي، وبالتالي يعتبر هذا الاختفاء هو العامل المحفز للحكاية. حيث سيستمر المسرح في العمل بينما مديره يختفي في الطابق السفلي، تعوضه في مهمته زوجته مريان (كاترين دونوف)،التي ستربطها علاقة عاطفية بأحد الممثلين الجدد، برنار (جرار ديبارديو). في الحقيقية إن حكاية الفيلم قد تستغني عن مشهد الذي استعمل فيه المخرج صورا من الارشيف، والمعلومة التي تقدم لنا هي من خلال التعليق بصوت فرانسوا تريفو نفسه، جاءت متضمنة داخل الحكاية. بعكس الفيلم الوثائقي الذي يستعمل الارشيف كوحدات سردية مستقلة من حيث المعنى، وتعتبر كمشاهد وليس كجزء من مشهد أو صور كحامل لتعليق يهيمن على المعنى.
يُطالب مخرج الفيلم الوثائقي بالضرورة بابتداع تدابير فنية وصيغ جديدة لاقتناص الواقع، وفي نفس الأن الحفاظ على انسجام أسلوبي للعمل مهما تعددت المواقف واختلفت في تركيبتها. والحديث هنا عن سينما تحاول ان تصور الحياة في حاضرها، أي تصور لحظات من حياة الشخصيات مباشرة ولو أنها ليست كذلك بنسبة معينة، لأن المخرج يكون على اطلاع مسبق يسمح له بتوقع الكيفية، واللحظة التي تمر بها الأحداث لكي يستطيع أن يضع كاميراته دون ان يؤثر على مجريات الحدث، الشيء الذي قد يدفعه في بعض الحالات لقضاء مدة طويلة مع الشخصيات قد تصل إلى سنوات لجعلها تتعامل مع حضور الكاميرا بنوع من اللامبالاة، وخلق علاقة الثقة بينها وبين المخرج. كان على ريمون دو بردون لكي يصور اللقطة الافتتاحية الطويلة لفيلمه “الحياة الحديثة” (2008)ذلك أن يحسب بدقة عدة مرات المسافة التي ستقطعها الكاميرا وهي مثبتة في مقدمة السيارة لتصادف اللحظة التي يعود بها الأخوان إحدى شخصيات الفيلم بالماشية من الحقل، دون ان يظهر ذلك على أنه إعادة تمثيل لطقس يومي. في التعليق الذي يصاحب نفس اللقطة نسمع المخرج يقول ما معناه أن هذا الفيلم خلاصة علاقة دامت عشرين سنة مع الشخصيات التي سيقدمها لنا.
لا تعتمد كتابة الفيلم الوثائقي غالبا على تحرير السيناريو بشكل مفصل، وبرمجة مطلقة للعمل. إن كتابة الوثائقي تنطلق من نص يصيغ تصورا قد لا يتجاوز في حالات بعض الصفحات، ويتوقع إلى حد ما الحيل والتدابير الفنية التي سيتبعها المخرج لينتزع من الشخوص ما يتوقعه من خلال تجربة حياتية، لكي يثير الواقع حثى يفصح الأخير من تلقاء ذاته عن نفسه، يتساءل عن الموقع الذي سيرى منه هذا الموقف بشكل يجعله حاضرا غائبا في نفس الآن، لكي يطور علاقة مع الموضوع ولكي يخلق نوعا من الثقة، الشيء الذي يتطلب في بعض الحالات سنوات تصوير، لكي تتمكن الكاميرا من القيام بمهمتها، وحيث تبقى جمالية الصورة بالمعنى التشكيلي والاضاءة من الاشياء الثانوية بالمقارنة مع المسافة الروحية والمادية التي نقف عندها، وكيفية توزيع الواقع المصور بين حقل/ الجزء المرئي، وخارج الحقل/ الجزء اللامرئي.
الفيلم الوثائقي مغامرة بكل المقاييس، حيث أنه بعكس الفيلم الروائي اننا لا نعرف متى ينتهي التسجيل ويقرر المخرج أنه توفرت له مادة كافية لبداية المونتاج. ولكنها مغامرة تتضمن نقطة الوصول، وتتضمن اجوبة ولو عامة عن الاسئلة التي يطرحه المخرج في نص التصور، وإلا لما تمكن من اقناع الممولين. إنها تكون مغامرة بكل معنى الكلمة عندما يغيب الانتاج، وتصبح الكتابة شخصية فردية لا موقع لها بعد في انماط الانتاج السائدة.
في كل الحالات يشتغل مخرج الفيلم الوثائقي في صمت وفي الظل، أو على الاقل بفريق عمل صغير، ولكن بنفس طويل، وربما لا يتلقى في النهاية نفس الاعتراف الذي يقابل به الفيلم الروائي لأن فرجة الفيلم الوثائقي مغايرة ولا ترافقها الاحتفالية التي تصادف عرض الفيلم الروائي.
يقف مخرج الوثائقي بتواضع أمام الواقع يستمع له، يلاحظه، يتأمله وقد يتطلب ذلك سنين، يتمتع بالطريق وبنهايتها، يجد الصعوبات عادية ولا يصنع منها مظلومية، ولا بطولة، وبدون أي استعراض أو محاولة للابهار. وتتحرر السينما من الجمالية الجوفاء النمطية وكل المحسنات التي يكون الهدف منها هو الابهار واخفاء بعض عيوب الكتابة وملأ بعض الفراغات. الارتباط الوثيق بين الفيلم الوثائقي والواقع، يجعل هذا النوع السينمائي مفتوحا ومتجددا باستمرار. ويفتح المجال امام الكتابة السينمائية لكي تبدع حلولا ابداعية ولاقتناصه ومقاربته، وبالتالي اكتشاف مناطق جديدة لاحتمالات الكتابة. لقد فتحت الافلام الأولى لجون روش ذات البعد الاتنوغرافي عن افريقيا المجال للموجة الجديدة الفرنسية لتصوير افلام روائية بمعدات خفيفة. الشيء الذي سيشكل قفزة في تاريخ السينما وليحررها من بعض القواعد والاعراف التي كانت تنعت انداك من طرف النقاد بالأكاديمية. لإعادة صياغته في شكل موضوع لرؤية ما يؤدي في النهاية إلى حكي بنفس جديد لأنه يقبل على الواقع بحد ادنى من النوايا الفنية والافكار المسبقة، يترك الباب مواربا أو مشرعا أمام الحياة لتتسرب إلى شريان الفيلم. الشيء الذي يعيد صياغة اللغة في حد ذاتها وتجديدها لتواكب حاضرها وتجعل المسافة التي تفصل الحياة عن السينما تتقلص.