1.
يبدو أن المسألة اللغوية في المغرب ستظل من أعقد قضايا التحديث في تعليمنا وثقافتنا. ذلك الاختيار، الذي كان واضحاً وعملياً لدى كثير من الشعوب الحديثة الاستقلال، لم يكن لنا حظُّ أن نصل إليه ونتخطاه إلى ما ينتظر دوره في جدول مشروع التحديث. هي مسألة غريبة على تاريخ المغرب، الذي حل مشاكل التعبير في مراحله السابقة على العصر الحديث، بطرق مرنة في غالب الأحيان، بين المدينة والقرية، بين العربية الفصحى والدارجة والأمازيغية، بين العربية ولغات أروبية. ذلك التاريخ أصبح اليوم بعيداً عنا، بل هو يبتعد أكثر فأكثر، كلما أقبلنا على توسيع العلاقة مع الآخر.
في مرحلة الدولة القوية، مرحلة المرابطين والموحدين، كانت للمغرب سيادة اتخاذ القرار بشأن لغته، ثم بعد سريان الأفول، أصبح المجتمع يتدبر أوضاعه اللغوية بنفسه. وتولّدت المشاكل مع بداية التحديث، إلى أن أخذت تسير نحو التعقيد، الذي لا يعثر على مخرج آمن، وخاصة منذ الاستقلال حتى اليوم.
أسميها أعقد قضايا التحديث، بسبب صعوبة استعادة السيادة الوطنية في هذا المجال، الذي يعبّر عن الصراعات الكبرى في المجتمع وعن تنازع المصالح مع الذات ومع الآخر. لا أتوقف عن تأمل هذه الوضعية اللغوية في المغرب. أتأملها بألم. من قبل كنت أتأملها من خلال التدريس في الثانوية والجامعة، أو من خلال تتبع الاهتمامات والنقاشات وحركة الأفكار. وكان ذلك شديد الارتباط بممارسة الكتابة، التي فرضت عليّ مواصلة التأمل وتعميق الاطلاع على الأوضاع اللغوية المختلفة في مناطق متعددة من العالم. أتأمل بالكتابة وفي الكتابة. ديوان نهر بين جنازتين موضوعه جنازة العربية وجنازة الأنا، في مغرب اليوم. ولا أتوقف عبر كتابات، حوارات، مناقشات، هنا وهناك. فأنا أريد أن أفهم، وأريد ألا أفارق الحياة وأنا غريبٌ في لغتي العربية. على أنني لا أرى بعد اليأس سوى المقاومة، بالكتابة، شهادة على زمن وعلى اختيارات.
2.
مسألة في شكل بركان ينفجر في المغرب على دفعات، دون أن يتوقف سيلانُ حمَمه. انفجر البركان ظاهرياً هذه المرة، على إثر إدخال كلمات مخصوصة من الحياة المغربية إلى الكتاب المدرسي. تعليقات بسخرية سوداء في مواقع التواصل الاجتماعي، غضب مواطنين شعبيين يعتبرون إدخال الدارجة، أو الكلمات التي وقع عليها الاختيار، حرماناً من حق أبنائهم في التعليم، تصريحات يختلط فيها الاحتجاج بالتنديد، أسئلة في البرلمان، مقالات وحوارات. تعوّدْنا على انفجار البركان من طرف النخبة. لكنه هذه المرة انفجار يتميز بثوران صوت المواطنين إلى جانب النخبة، بفعل التوظيف المتزايد لشبكات التواصل الاجتماعي. ولك أن تسخر من زمن، ومن حلم، ومن أحزان تعجز اللغة عن إدراك قيعانها.
أنا من بين الذين يدْعون إلى تبني العربية الحديثة في المدرسة. لن أعود إلى ما كتبته أو صرحت به في السابق. ما يجب أن أشدد عليه هو أن لغة المدرسة هي اللغة المكتوبة، لغة المكتوب في كتاب أو في حامل يوازي الكتاب. هذا هو المبدأ الأول لانتقاء ما يصبح مقرراً في الكتب المدرسية. فالمدرسة هي المكان الذي نتعلم فيه ما يسمح لنا بالانتقال من الظلام إلى النور، نور المعرفة. والكتاب هو الحامل الأول للمعرفة، الذي يمكننا من أن نعرف ما لا نعرف. كل خروج عن هذه القاعدة الأولية معناه أن من يتبنى غير المكتوب يصرّ على ألا يتعلم الذين يدخلون إلى المدرسة، ويصر على إفراغ المدرسة من وظيفتها المركزية. هذا الإصرار يحط من قيمة المدرسة العمومية وحدها، لأن أصحاب القرار وأغلب الخائضين في الموضوع، لا يعنيهم أمر إفراغ المدرسة العمومية من وظيفتها، ما داموا قدا اختاروا لأبنائهم المدارس الخصوصية أو مدارس البعثات الأجنبية.
ليست اللغة لائحة من الكلمات، بل هي جمل وتراكيب وعبارات تؤلف نصاً، والنصوص تؤلف كتاباً. المعجم بحد ذاته نصوص، قبل أن يكون كلمات مجردة، معزولة عن سياقات تركيبها. تقاليد الكتابة (والكلام) هي التي تقرر في وضعية الكلمات، وفي مصير الكلمات. أقصد تقاليد الكتابة الفردية، التي ترقى بالممارسة اللغوية إلى مستوى النموذج، أو الممارسات الجماعية للكلام، التي يتم التواضع عليها في المجتمع (ومنه المجتمع الثقافي). لا فرق هنا بين الكلمات العالمة والكلمات العامية، بين الكلمات المندرجة ضمن المكتوب منذ الأزمنة البعيدة، أو الكلمات التي تتبناها اللغات من بين تلك التي يتخاطب بها الناس في حياتهم اليومية، أو تلك التي يستعيرونها من الأجنبي. فلا وجود للغة خالصة، من حيث المعجم، أما الأنساق فهي خصيصة اللغات بامتياز.
3.
أفترض، بعد هذا، أن الدافع إلى الانفجار ليست كلمات من الدارجة بمفردها، بل أيضاً ما يوحي به إدخال هذه الكلمات في الكتاب الأول. فهو يوحي بأنه مقدمة لمسلسل تغيير شامل للغة التعليم أساسه الدارجة، سيتم تنفيذه بالتدريج على امتداد السنوات اللاحقة. افتراض ينقل المناقشة من الكلمة المفردة، المعزولة عن السياق، كما أراد لها التقنيون، المشرفون على إصلاح الكتاب المدرسي، إلى الكلمة ضمن سياق النص، كما أنظر إليه. من هنا أقول نعم، لكلمات من الحياة اليومية في المدرسة. هذا قانون اللغة عبر التاريخ، لكن بشرط أن تكون هذه الكلمات مستعملة في نص مكتوب. وأول مرجع يتم الاعتماد عليه، في انتقاء كلمات دون سواها، هو الأعمال الأدبية. فعندما تكون الكلمة مأخوذة ضمن سياق نص مكتوب تصبح لبنة في بناء صرح، هو المعرفة.
هذا اختيار حديث، واضح، لمبدإ التعليم الذي يقوم على أساس أن المدرسة تعلّم المكتوب. ثم إن هذه الأعمال الأدبية التي أقصدها هي بالضبط الأعمال العربية الحديثة، التي يجب أن نستقي منها عربية المدرسة الابتدائية والإعدادية، ومن بينها الأعمال الأدبية المغربية، التي لها وضعية اعتبارية في السجل الثقافي. فالأدباء لهم حاسة عليا في اختيار الكلمات ووضعها في تراكيب جديدة، مفاجئة، إبداعية. بهذا لا تبقى الكلمة كما هي في الاستعمال العادي، بل تكتسب طاقة جمالية، أو إيحائية، هي علامة قيمتها المعرفية.
4.
مبدأ العربية الحديثة، من خلال الأعمال الأدبية في مرحلة أولى، هو ما يمكن أن يقدم لنا حلولاً عملية، وينقل خطابنا عن اللغة وعن التربية اللغوية من الاختيار العقيم إلى الاختيار المنتج. عندما نقبل على القراءة التاريخانية لوضعية العربية، سيتبين لنا مدى التحديث الواسع والمبدع الذي قام به الكتاب العرب المشرقيون في القرن العشرين، ثم التحق بهم الكتاب المغاربيون، الذين أصبحوا بدورهم مبدعين كباراً، لهم مكانتهم على المستوى العربي، وآفاق عالمية تحتضن أعمالهم، يوماً بعد يوم.
كانت العربية، على الدوام، منفتحة على الدارجة، لغة الحياة اليومية، بخلاف ما كان سائداً في اللغات الأروبية، على سبيل المثال. هذه بديهية لا تحتاج إلى برهنة. لكن ما يعنينا مباشرة هو أن الكتابة الأدبية العربية، ومنها المغربية، في العصر الحديث، تفاعلت بسلاسة وتلقائية، وبحس جمالي رائق، مع لغة الحياة اليومية، معجماً وتراكيب وصوراً وقوالب. والذين يتكلمون عن القطيعة بين العربية المكتوبة والدارجة، يعتمدون في صياغة آرائهم على قراءة لاتاريخانية، لأنهم لا يعرفون الثقافة العربية ولا يريدون أن يعرفوها أو يعرفوا الصراعات التي خاضها الكتاب الحديثون ضد التقليديين، المتزمتين. نادراً ما نجد، من بين هؤلاء الذين يدّعون الحديث عن الدارجة، من يعرف الأدب العربي الحديث أو يعرف الدارجة نفسها. وعندما يصطدم بعمل أو بشاعر أو كاتب (أو مغن مثلاً يغني قصائد) بالعربية الحديثة وصل إلى جماهيرية واسعة، أو أصبح ذا مكانة خارج العالم العربي، يصمت حتى تحين الفرصة ليشهر من جديد ما يصرّ على اعتباره الاختيار النهائي. وتعود الأسطوانة.
ففي العربية الحديثة، التي بناها أدباء في أعمالهم الأدبية، وكذلك باحثون ومفكرون وصحافيون، ما لا يحصى من كلمات الدارجة وعباراتها. هي عربية منفصلة عن الذي نظل نسمعه بأن العربية هي عربية القرآن. للقرآن مقومات المحافظة على عربيته. وهذا الكلام الذي يتكرر أصبح مملاًّ ومتعباً، لأن أصحابه يتنكّرون لتاريخ الثقافة العربية، وللأدب العربي، وللحديث منه تحديداً.