محمد بن علي الرباطي وحكاية الدخول لعالم الصورة

بالرغم من البحوث العديدة التي تهم تاريخ التشكيل بالمغرب، فإن الذاكرة البصرية لا تجد سابقا لمحمد بن علي الرباطي في مجال ريادة التشكيل الحديث على المسند بالمغرب. ولا غرابة في ذلك فهذا الفنان، الذي ولد بمدينة الرباط سنة 1861 سوف ينزح مع عائلته إلى مدينة طنجة، وكان عمره آنذاك 25 سنة حسب بعض الشهادات، ويبدأ بشكل عصامي في ممارسة التصوير التشكيلي في بدايات القرن العشرين


عاش الرباطي حياة عادية، غير أنه وهو في العقد الرابع، في بداية القرن الماضي سيعيش لقاء مع فنان بريطاني ستتغير معه حياته وتنقلب رأسا على عقب. يتعلق الأمر بالسير جون لافيري Sir Jhon Lavery الذي كان مقيما بطنجة منذ 1890 والذي كان فنان بلاط ملكة بريطانيا. كان بن علي الرباطي يشتغل حينها طباخا لدى الرجل منذ 1903. وهكذا سوف يتعلم الرباطي قواعد فن الرسم بالاحتكاك بمشغله الذي سوف يشجعه على ممارسة هذه الهواية

والمعروف أن بلاد المغرب كانت تعرف في هذه الفترة تحولات عميقة. فالقوى الأوروبية تتنافس على احتلاله، وملكه الشاب مولاي عبد العزيز صار يتعاطى بمختلف أنواع التقنيات الحديثة، فتعلم ركوب السيارة والتصوير الفوتوغرافي، بل تعلم الرسم على يد محترفين لهذه الأمور الجديدة حتى اتهم باللهو من قبل علماء المملكة، وتم خلعه وتنصيب أخيه بدله. في هذه الظروف كانت طنجة موطنا لكل التحولات التقنية والاجتماعية ومجالا مفتوحا على المستجدات الثقافية في الغرب

صحب السير لافري معه الفنان الكهل إلى لندن سنة 1916. وهناك يتعرف وهو بالجلباب التقليدي المغربي على المدينة والحضارة الغربية. وأقام له السير لافري معرضا في رواق غوبيل Goupil. ثم إن بن علي الرباطي رحل بعد ذلك إلى مرسيليا كي يشتغل في معمل السكر سان لويس. وهناك أيضا عرض أعماله سنة 1919، مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى. وفي 1922 عاد الفنان إلى طنجة واستقر بها ومارس فنه ليعرض أعماله في 1922 في الرباط في قصر المامونية. وثلاث سنوات بعد ذلك التحق كإطفائي بالطابور الإسباني. غير أنه لن يلبث أن يترك الجيش الإسباني سنة 1929 كي يشتغل حارسا في بنك بلباو بطنجة الذي كان يوجد حينها في السوق الصغير. وفي 1933 يبدو أن الفنان قد نضج في مسيره، فتوفر له مرسم حقيقي في رياض السلطان وصار معترفا به باعتباره رساما أي مصوِّرا. وسوف يستقر بعد ذلك ببضع سنوات في طريق القصبة حيث سيتمكن من ممارسة الرسم وفن الطبخ، هوايته الثانية التي قضى فيها سنوات بل تعلمها في مدرسة خاصة. وهكذا فتح في هذا المكان رواقا للعرض يعتبر أول رواق مغربي ومطعما. وتوفي محمد بن علي الرباطي سنة 1939 .

استطاع محمد بن علي الرباطي إذن، أن يبرهن أن التصوير التشكيلي ممكن في مغرب لم يعرفه في نمطه التجسيمي إلا مع الفنانين المستشرقين. فهو قد أبدع عالما قريبا من الواقعية، يجسد ما تراه عينه وما يعيشه في يومه. وهكذا، فإن هذا الحاكي قد التقط العديد من المشاهد التي خلَّدها من مغرب بدايات القرن الماضي. وإذا كان للرباطي أسلوب معين في معالجة الشخصيات فإنه لا يركز على مواضيع معينة، بل تراه في كل لحظة ينزاح عن هذا ليكرس نفسه لذاك، وإن كانت موضوعات النساء والحفلات تبدو قريبة إلى ريشته.

اهتم الرباطي بخرجات السلطان وصورها، إذ إنها كانت آنذاك أحداثاً استثنائية التقطها دولاكروا وأتقنها حسن الكلاوي عقودا بعد ذلك. كما كان يعشق المشاهد الخارجية التي تجري في الأزقة، فترك لنا أعمالا تصور الحُكاة في الساحات العمومية. كما صور لوحات بالألوان المائية تشخص حُواة الثعابين وهم يمارسون ألاعيبهم أمام جمهور محتشد. وترصّد خرجات الباشا على بغلته والأسواق العمومية قرب أسوار المدينة وخروج السلطان من المسجد بعد صلاة العيد وطواف مواكب الأعراس في أزقة المدينة بألوانها الزاهية. ولم يغفل الرباطي تصوير حفلات الطرق الصوفية بما تتميز به من مشاهد غريبة. وعدا هذه المناظر الحركية التي تشهد على موضوعات اجتماعية وعمرانية تقليدية فقد سار اهتمام الفنان إلى تصوير المساجد والساحات العمومية والأزقة في حياتها اليومية. فقد اهتم الرباطي بتصوير النساء في الشارع متلفعات “بالحايك” الذي يغطي منهن الجسد بكامله. وهو المنظر الذي كان يثير الرحالة الأجانب فيصفون النساء بالأشباح وبالكومات البيضاء المتحركة التي لا يعرف منها الناظر إن كان يتعلق الأمر بصبية أو شابة أو عجوز.

بيد أن فن الرباطي يتبدى بالأساس في المشاهد الداخلية التي تتطلب منه إبراز مهاراته الحرفية في أمور الزخرفة والعناصر الهندسية التي تتمثل في التزاويق والشبابيك والزليج المختلف الألوان والزجاج بتلاوينه المختلفة. وهذه المشاهد يستهدف من ورائها الرباطي إبراز قدراته الزخرفية والتصويرية من جهة ورغبته الاجتماعية في تصوير اللحظات التي تندرج في سياق الحياة التي يحياها. وفي هذا السياق خلد الفنان الكتاب القرآني بطلبته وفقيهه الجالس على المصطبة وألواح القراءة والكتابة، وجلسة المحاكمة لدى القاضي واستقبال الأعيان وغيرها مما كان يجذب نظره ويثير اهتمامه.

لكن ما يثير الانتباه لدى الفنان هو اهتمامه بموضوعات المرأة من حفلات نسوية وإعداد لطبق الكسكس وصور عازفة العود ولحظات استجمام النساء في المنازل وغيرها من المشاهد المتصلة بيومي المرأة. إنها مشاهد لا تحيل في شيء للنظرة الاستشراقية التي ظلت سائدة لدى الفنانين الذين تناولوا المرأة العربية والمغربية. فهي لا تستعرض مفاتن النساء ولا تقدمهن في صورة غانيات متكئات أو مستلقيات بأجساد تنضح بالغواية… إنهن بالأحرى نساء واقعيات حركيات نشيطات عاملات. إن مقاربة الرباطي مقاربة محتشمة وعامة، بحيث لا يصورهن إلا في الأماكن التي لا توحي بالحميمية والشبق، أي في أماكن اللقاء بالبيت كالفناء وقاعات الاستقبال وغيرها.

غالبا ما تعامل بعض النقاد والمؤرخين مع أعمال محمد بن علي الرباطي باعتبارها أعمالا فطرية. والحال أنها في الحقيقة أعمال فنية تتسم بالكثير من سمات الفن الحديث، بالرغم من أن صاحبها لم يتلق تعليما أكاديميا. ولا أدلَّ على ذلك من استعمال المنظور والابتعاد عن تسطيح الأشكال الذي يميز الفن الفطري. وبالرغم من أن الرباطي لم يستعمل المرسام الخشبي بل كان يمارس التشكيل في وضعية القرفصاء التي تميز الفقيه وهو يكتب على الرق أو اللوحة الخشبية، فإنه مارس تشكيلا مسنديا على غرار أستاذه وغيره. إن استعماله الكثير للألوان المائية (الأكواريل) ينم عن اهتمامه الأساس لا بالتقنية وإنما بالمنتج التشكيلي، ومن ثم بالتواؤم بين الرسم والصباغة. بيد أن تقنيته تنحو في جانب منها إلى استلهام تقنية المنمنمات ولو أنها لم تكن تشكل تراثا مغربيا. ويتبدى ذلك بالأخص في استعمال الزخارف وكذا في الأطر المزوقة التي كان يرسمها ويلونها ليؤطر بها لوحاته. كما أن أعماله التشكيلية كانت في الغالب صغيرة الحجم، على الورق، مما يقربها كثيرا من المنمنمة. وبهذا فإن الرباطي قد أرسى أسس التصوير التشكيلي المغربي الحديث مازجا ومركبا بين المحلي والعالمي وبين التشخيص والتجريد الزخرفي.

فريد الزاهي

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X