عبد الكريم الوزاني ينحت أثير الأشياء
فريد الزاهي
يظل النحت الضيف الأشد غربة وغرابة على محيطنا الفني. فمواده الصلبة والفضاء الذي يحتله في العرض، وارتباطه التليد بتصورات التشبيه المحرَّمة، كلها أمور تجعل أغلب الفنانين لا يمارسونه إلا لمامًا. بيد أن تقنيات النحت كثيرة وموادها وخاماتها قد تختلف من شخص لآخر. فإذا كانت الغالبية العظمى تستعمل المعادن والحجر والخشب، فإن بعض الفنانين العرب والأفارقة (عصمان صاو مثلًا) يجعلونها مختبرا نابضًا بالمواد الأكثر بعدًا عن المضمار.
بخفة روح طفولية يبني عبد الكريم الوزاني منحوتاته الملونة. تصغر حتى تكاد تغدو لعب أطفال ينصبها في الفضاء، وتكبر وتتعالى حتى تغدو أشبه بأرجوحة. هكذا يمنحنا هذا الفنان منذ أكثر من ثلاثة عقود كيانات فاتنة تترجم عالمه المرئي، وتزج بنا في مكونات محيطنا لتعيد خلقه لنا وأمامنا بمزيج من الدهشة والمرح والفتنة. منحوتات هذا الفنان ترفل بالكائنات، من ورود وأسماك وأشجار، تكاد تنبع من أيادي طفل لم يجد أمامه غير أسلاك الحديد والخرق والألوان كي يشكل بها تلك الكائنات.
وأنت تلج دار الفنون بالدار البيضاء أو الرباط، تستقبلك منحوتات سامقة بنحافتها الآسرة وألوانها الواضحة لتزرع في مقلتيك الفرح. بل وأنت تمر من وسط مدينة تطوان، وبعد أن تمر بنقطة المرور التي تتوسطها حمامة “أحمد بنيسف” الشهيرة، تستقبلك منحوتة ملونة لأحد نحاتيها البارزين الذين ظلوا أوفياء لها ووسموا المدينة بأعمالهم. هكذا لا يمكن أن تُذكر تطوان، المدينة ذات المسحة الأندلسية الظاهرة، إلا ومعها اسم عبد الكريم الوزاني، الذي سهر على إدارة مدرسة الفنون الجميلة لمدة سنين طويلة ومنحها الانفتاح والدينامية التي تعرفها اليوم.
يلتقط عبد الكريم الوزاني لحظاته النحتية من محيطه المباشر. هو الشاب الذي نما في حضن مدينة تطوان العريقة، وتضمخت حواسه بما أنتجه فنانوها المتخرجون من مدرسة الفنون الجميلة، العريقة. من فضائل هذه المدرسة أن أساتذتها وفنانيها يتقنون الرسم وينتمون جماليًا للتقاليد الإسبانية. ولئن كان الكثيرون منهم قد انساقوا إلى الواقعية الفنية بمجمل أنواعها، فإن البعض الآخر منهم قد اختار أن ارتياد مجاهيل التجريب، في المنزلة بين التشخيص والتجريد والتعبيرية والهندسية. بيد أن تجربة الوزاني انزاحت منذ البداية عن كل هذا باحثة عن تميز من نوع آخر، يستبطن في الذات تلك الفرحة الطفولية بالرسم، جاعلة من الممارسة النحتية والتشكيلية لعبة طفولية مشحونة بالانفعالات.
لا فرق ثمة لدى الوزاني بين الرسم والنحت والتشكيل. العمل الفني لديه جماع كل هذا في حركية تتضمخ بالبساطة وتشي بالتعقد. يبني الفنان منحوتته بالمعدن. إنها عبارة عن خطوط لهيكل سمكة أو دابة أو طير، يلفها بالقماش ويشدها بالمواد اللاصقة التي تمنحها حجمًا. ثم يصبغها بألوانه الصارخة البهيجة من أحمر وأخضر وأزرق. تمنح الألوان للمنحوتة حياة تنتزعها من خشونة البرونز وتلاوين الرخام والحجر وتجعل من رقصات ألوانها دعوة للفرح الطفولي. وفي هذا المزيج بين التشكيل والرسم والنحت ينفلت العمل الفني من “أقنومية” التصنيف. بل فيه أيضا يكرس الوزاني تميزه وفرادته بحيث لا يمكن أن ترى لوحة أو منحوتة له من غير أن تعرف صاحبها للتوّ.
حين تزجُّنا أعمال الوزاني في حركيتها، تفعل ذلك بالتركيب والتفكيك والأسْلبة stylisation. وأمام أي عمل من أعماله، يحق لنا أن نقول: “هذه ليست سمكة…”. لا لأن الأمر يتعلق بتشابك المعنى، وإنما لأن اعتماد الفنان على الأسلبة، أي اعتماد الهندسة الرسمية التبسيطية لكائناته، وتركيبها بعناصر دخيلة تحولها إلى كيان مركّب، هو ما يمنح لكل عمل طابع المعنى الإضافي. من ثم، فالمثير في تجربة الوزاني هو قدرتها على تفكيك المرئي وإعادة تركيبه، مع تبسيطه إلى هيكله، وهو الأمر الذي يخلق لديه كما لدينا، وفي كل مرة، إحساسًا بأن تعقد المرئي وحجْميته وجسْميته ليست سوى مظهر لهيكله الأساس. فما يهم في هذا المرئي المحسوس هو نسغه اللامرئي، أي ما يغلفه المظهر. بذلك يكون غير المرئي جوهر المرئي ودعامته، وهو ما يهم أساسًا نظرة الفنان. ففي تبسيط الأشكال نوع من الامتلاك الأولي لها، بحيث إن السمكة قد تُختزل في رسم رأسها كي توجد في ذهننا كاملة مكتملة. بيْد أن هذا التبسيط يفصح عن اشتغال مجازي وكنائي في الآن نفسه، يمكّن الفنان من امتلاك المرئي والإحالة إليه وفي الآن نفسه التلاعب به.
العملية الإبداعية لدى الوزاني، ضرب من اختزال الواقع برمته في حكاية وامضة. أو لنقل بالأحرى إنها تحويل لقتامة الواقع وتركيباته المعقدة والمتشرنقة إلى خطوط ملونة تنضح بالبهجة والتأمل. وهو في هذه التلوينية البارقة والتشاكلات الطفولية اللهوية يذكرنا بأعمال الفنان الإسباني خوان ميرو juan Miro الذي يضج عالمه بالأشكال المتراقصة. لكن الوزاني يعمد عامة إلى الاختصار بغية منح كل عمل طابعا حركيا مبسطا يمنح للمتلقي منذ البدء شحنة مكثفة من الدلالات الرمزية والإيحائية. ثمة في هذه البساطة في التركيب، الكثير من المناورة، لأنها تدعونا بكثافتها الآسرة إلى التأمل في العمل أكثر.
من خلال العمليات المجازية والكنائية، يسبك لنا الوزاني، قصائد هايكو شعرية مشحونة بالكثافة والبساطة والعمق، “يكتبها” مثل أوراق شجرة، ويؤثثها بمتخيل مرح يستشف أغوار الوجود من خلال الكشف عن طبقاته الباطنة. وفي هذا الاستكشاف يبدو أن الفنان ليس مرحًا بهذا القدر الذي يبدو لنا للوهلة الأولى، بقدر ما هو يستكشف بواطن الأشياء ليتجاوز مأساويتها اللصيقة بها. إنها لعبة جمالية تلطف من تشابيك الواقع كي تمنحه لنا في صفائه الأولي، مغلفة هيكل الحياة بشفافية اللون ومرح التشكيلات التي تأخذ بأنفسنا وتروح بعيدا بنا في أفق رحب لا ضفاف له.
حين التقيته قبل أسابيع قليلة، أطلعني على مشروع منحوتته التي ستقام في فضاء عمومي بمراكش بمناسبة انعقاد الدورة 22 لقمة المناخ بهذه المدينة. المنحوتة عبارة عن شجرة تخرج من قنينة تعبيرًا عن الطبيعة مخرجًا من الاحتباس الحراري. وكأن أعمال الوزاني من بدايتها قد أبدعت نشيدًا متواترًا لحب الطبيعة والكائنات التي تؤثث سعادة الوجود الأولية.