من شهور، سرت في فيسبوك سريان النار في الهشيم، دعوة لمسلمين متشددين إلى محو كل الصور التي تظهرهم في وضعيات يومية عادية تجعلهم يبدون كباقي بني البشر. هكذا يستعيد الوهابيون الجدد علاقةً إشكاليةً مع الصورة والتصوير، وكأنهم بذلك يستعيدون أرواحهم من شياطين الصورة التي استحوذت عليها. هذا الندم يحول الصورة إلى شيطان وفتنة يلزم درؤهما، كي يعود الشخص إلى مجهوليته الروحية. وما لم ينتبه له هؤلاء هو أن اللغة العربية قد احتفظت لكلمة “صورة” في معجمها بما يجعلها غير قابلة للانفصال عن الجسد، أي عن ذلك الكيان الذي يحيى الفرد مهما كانت درجة علمانيته أو وهابيته. فالصورة، حسب لسان العرب، هي الوجه والجسد والظل والتمثال والكتابة والرقش وغيرها من المعاني التي تحيل إلى المظهر العياني للجسم البشري كما إلى الصورة المتخيلة. هكذا تذكرنا اللغة بتداخلات وتفاعلات بصرية وخيالية لم يستطع المجتمع أن يمحوها بالرغم من السكيزوفرينيا التي يعلن عنها الإسلاميون المتشددون، في عشقهم الدفين للصورة واستعمالاتهم الإرهابية والسياسية والعسكرية لها وإتقانهم لمفاوزها وتقنياتها.
الصورة والقناع
بالرغم من دخول العربي إلى عالم الصورة منذ أكثر من قرن، لا يزال ثمة ذلك الخوف التليد من الصورة والذي لا يمكن إلا أن ينتبه إليه الفيلسوف وعالم الاجتماع. فقد كتب مشيل مافيزولي عن حق: “إن النفور من الذات ومقتها، وكره الحياة لا تقدم نفسها في حلة خالصة، فهي في الواقع تقدم نفسها مقنَّعَة. ومن جهتي أعتبر أن الخوف من الصور والحذر منها أحد هذه الأقنعة” (تأمل العالم، الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية، ترجمة فريد الزاهي، 5200، ص. 127). وهو الأمر الذي ينتج مفارقة من الصعب مجاوزتها: إن هذا الخوف يمارس الإنكار على ما نعيش من خلاله، أي ما به نرى ونُرى، وما به نعيش حياتنا اليومية. ومن ثم ندرك أن مقت الصورة هو مقت للحياة. بيد أن ما لم يشر له مافيزولي، هو أن الإفراط في استعمال الصورة يغدو بنفسه قناعاً، إنه إفراط في حب المحسوس والمرئي تصير معه الصورة عالماً هجيناً وسيالاً يغيب معه الشخص في فيض الصور.
العربي لا يزال يعيش مفارقة كبرى تتمثل في الافتتان بالصورة والخوف منها. وهي مفارقة نابعة من طبيعة الصورة نفسها. بيد أن التطورات الحاصلة اليوم تقنياً واستعمالياً منحت الصورة والخيالي والرمزي مركزاً يوازي مركزها في الحياة البدائية، وكأن المجتمع وهو يتقدم حثيثاً في مسير متعرّج لا يكتفي فقط باستعادة “الوثنية” القديمة وإنما بالعودة إليها بشكل جديد. لقد صار الإنسان المعاصر ملفوفاً بالصور، يصادفها أينما حل وارتحل، تتابعه في وعيه وأحلامه، والكثير من الصور الحية الملموسة تغزو فضاءه الذهني لتنتعش في شكل صور خيالية.
في ما مضى كانت الصورة الشخصية أو العائلية حدثاً، والبورتريه ضرباً من الاحتفاء بالذات أو بالغائبين ونوعاً من الشهادة البصرية الحاضرة عن غياب الأب أو الأم أو الجد والجدة. وكانت الصور التي تغزو الفضاءات العمومية تؤبد القادة السياسيين (عبد الناصر) أو المطربين الشهيرين (أم كلثوم وعبد الحليم حافظ…). أما ملصقات السينما وأغلفة الأسطوانات فكانت تؤثث ولعنا بالموسيقى والسينما وتؤججهما في ذاكرتنا البصرية.
أما اليوم، فإن مخزون آلات التصوير الرقمية والهواتف النقالة والخازنات الخارجية الضخمة والخازنات الافتراضية مثقلة بكثرة ما يلتقط المرء من صور. ومن فرط ما تحبل به الذاكرة الرقمية من صور، لا يستطيع المرء أن يتذكر هذه الصور إلا ما انتقاه منها وما جعله منها صورة للبروفايل أو يافطة لفيسبوك. ومع تقنية السيلفي صارت الصورة أشبه باللازمة، تكاد تشتغل بشكل فطري. التقاط الصورة لم يعد فقط لخلق ذاكرة للحياة الشخصية والجماعية وإنما أشبه بالحركة اللاواعية التي تولّد كوجيطو جديد: “أن أصوِّر إذن أنا موجود”. ولأن الصورة ليس لها من فكر داخلي لأنها مرتبطة بالحسي والمحسوس، فإنها قد تعطّل التفكير الذي يمكن أن يتولد مع اللغة ومع الصمت.
هكذا صارت الصورة في الاستعمال اليومي أشبه بالضجيج الذي يزعج صفاء الخبر واللغة. الصورة تشوش على جانبها الاستعمالي لتغدو ولعاً يومياً، بحيث صارت نمطاً تواصلياً يسعى إلى احتواء اللغة وتحجيمها واختزالها إلى الحد الأدنى. يتبدى ذلك في استعمال الإيموتيكونات التي تغني عن الكتابة بشكل شخصي أو عبر المسكوكات اللغوية المتداولة. من ثم صارت هذه الوفرة مطمئنة ومخيفة في الآن نفسه. إنها تطمئن لأن ضجيج الصور يجعل المرء في مأمن من صمت الفراغ، باعتباره مرتع التأمل والتفكير وتطوير الحميمية الداخلية المفكرة، ومن ناحية أخرى تخيف لأن الصور فاضحة أكثر من الكلام. قد يحكي المرء في الهاتف عن علاقة حميمة مع شخص من الجنس الآخر، وقد يكتب عن ذلك في مذكراته. لكن الصور مهاجرة ورحّالة أكثر وبسرعة أكبر من الكلمة. إنها وثائق بصرية (إن لم يتم فقط التلاعب بها بالفوتوشوب وتقنيات التحوير) شاهدة على الجسد والفعل. وما يزيد في هذا الجانب المخيف هو أن المتعة البصرية بالصورة قد تتحول إلى إدانة ورعب ووصمة عار. فالأخلاق السائدة تتطور بوتيرة أبطأ من دخول الصورة إلى عالمنا. ومن ثم تتحول الصورة إلى قناع متعدد يتم الحذر منه بقدر ما يتم الولع به.
هل يمكن بناء وعي بالصور؟
الصورة ليست مفهوماً يمكن التنظير له بسهولة، ومن ثم تطبيق ذلك التنظير على مواطن كالإشهار أو السينما أو الفيديو أو غيره. الصورة كيان متعدد ومنفلت. فما يمكن الإمساك به هو الصور في جهويّتها وتحولاتها وفعاليتها وسلبيتها وفضائحيتها كما في فعاليتها السياسية وغير ذلك. ربما لهذا الأمر قلّ من بين مثقفينا العرب من يهتم بها، ويدرسها وينظّر لها ويحللها. ففي الوقت الذي صارت فيه للصور فعالية يومية، سياسية واجتماعية وفردية، لا يزال ينظر إليها المثقف العربي، ومعه الباحث والأكاديمي، كما رآى لها المثقف في عصر “نهضتنا”، أي كوسيلة استعمالية لا غير، عكس اللغة، التي تتمتع بالقداسة العريقة و”بالفعالية” التي تحملها في جوهرها منذ الجاهلية.
تطورت الصور وتقنياتها وسبل تداولها، فيما لا نزال عاجزين عن فهمها ومساءلتها وتحليلها وإدراك الغزو الكاسح الذي تمارسه بين ظهرانينا ورغماً عنا، وكأنها كيان بريء لا يشكل سوى أكسسوار نافل لا تبلغ أهميته كلامنا ومنشوراتنا وشعرنا ورواياتنا وصحفنا وثرثرتنا اليومية. الصورة صارت مكوناً أساساً من تواصلنا اليومي، ولن ننتظر طويلاً كي تغدو الوسيلة الرئيسة لهذا التواصل. لا يتعلق الأمر أبداً بالنعي المبكر للغة، فهذه الأخيرة بتجريديتها الأصيلة هي القابلة لبلورة “وعي” ممكن بالصورة عموماً وبالصور باعتبارها ممارسات تواصلية واجتماعية وفردية.
حين نتحدث هنا عن الصورة بهذا الشكل، الذي لم نتعود على صرامته، نؤكد بكل بساطة، لمن يرغب في الإنصات لذلك، بأن أغلب رهاناتنا الحالية، التواصلية منها والسياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضاً، ترتبط بهذا القدر أو ذلك بإنتاج الصور وتداولها. وبالرغم من أن المرجعيات الفلسفية والفكرية والسوسيولوجية وغيرها لا تزال شحيحة، يكفي الوعي بهذه الضرورة كي نتخلى حثيثاً عن مركزية اللغة والخطاب ونقارب “وحشية” الصورة وطابعها المنفلت من العقال، لكي نجرب قدرة فكرنا العربي عن التخلي عن مسبقاته المعرفية، وعن معتقداته التليدة التي يجرجرها وراءه من عقود، بقصد بلورة تصور للصورة يكون في مستوى الحجم المتزايد الذي تأخذه في يومينا ومتخيلنا وتواصلنا وحميميتنا.
وعوض أن نتحدث عن ثقافة الصورة من حيث هو كلام فضفاض، الأحرى بنا أن نبلور بشكل حثيث فكراً للصورة. فالصورة أيضاً رغم التباسها ومحسوسيتها ونظامها البسيط الماكر لا تزال تتحدى فينا قدرتنا على الإمساك بها، كي نروض منها لفكرنا ما هو قابل للترويض، ونجعل منها نافذة للإطلال على تحولات تنسل من بين أيدينا كما ينسل الماء من بين الأصابع.