فصول عماد بادي الجميلة

محمد الشريف الطريبق

عندما اكتشفت الفيلم القصير “أيام الصيف” لعماد بادي في مهرجان سطات لسينما الهواة سنة 2015، كانت لحظة مفاجأة ودهشة بكل معنى الكلمة، وبكل المقاييس. مع نهاية العرض الأول، كنت متحمسا للفيلم إلى درجة أنني بأنانية مفرطة لم أكن مستعدا لمناقشته وأن أوجد في موقف أكون مجبرا فيه على الدفاع عن هذا الفيلم الجميل. كنت مقتنعا انه يستحق الجائزة الكبرى وكفى. في المرة الثانية بمهرجان سيدي قاسم للفيلم القصير المغربي 2016 تكرر نفس الموقف، ولكن بطعم التأكيد، ووجدت نفسي أخد نفس القرار. وفي الحالتين وجدت أن باقي أعضاء لجنتي التحكيم كانوا يتقاسمون معي نفس الاختيار.

مند سنوات من العمر القصير للشريط القصير المغربي، أي مند تطبيق القانون الذي يفرض على شركات الإنتاج تفريخ ثلاث أفلام قصيرة للحصول على ترخيص (لكريمة) لممارسة خدمات تنفيذ الإنتاج، والسينما المغربية تراكم خيبات الأمل، الواحدة تلو أخرى، إلى درجة  أننا أصبنا باليأس. لأن هذه الأفلام، وعددها لا يحصى، كانت ترسم لنا مستقبلا سوداويا قاتما، أو لنقل، لا ترسم أي أفق. وأستثني بعض الأعمال التي كان يقوم بها مخرجون يحملون الجنسية المغربية القادمين من الخارج. أفلام جلها مُنشًطة (Dopés) بخبرات أجنبية، وجيش خفي من المستشارين في كل مراحل الانتاج، وبإمكانيات مادية مهمة وتكوين في معاهد أوروبية للسينما تجعلهم يحققون الحد الأدنى في أضعف الحالات، أو بين الفينة والأخرى أعمال نادرة لمخرجين مغاربة من الداخل بمشروع سينمائي واضح المعالم، أو أعمال لا تتجاوز المتوسط تتحول وسط الهستيرية الإنتاجية إلى تحف يصفق لها الجميع.

في أجواء يغمرها ضباب كثيف، جاء عماد بادي من حيث لا نعلم، كبصيص أمل، قاطعا بشكل مطلق مع الممارسة السابقة إنتاجا (الفيلم من إنتاج ذاتي وبطاقم محدود) وكتابةً واخراجا، بعيدا عن التمثيلية الإذاعية أو تركيبة تشبه النكتة، إلى غير ذلك مما عودتنا عليه بعض الأشرطة القصيرة الهزلية التي غادرتنا إلى دار النسيان، مباشرة بعد عرضها في حصة البانوراما الليلية بطنجة. وجاء الفيلمين القصيرين لعماد مندمجين مع تقاليد الشريط القصير كما تمارس في باق دول العالم، والتي تتميز بنوع من الراديكالية موضوعا وأسلوبا، والرغبة في التميز عن الإنتاج الرسمي، والرغبة في قتل رمزي لجيل الآباء.

عماد يخطو خطواته الأولي بثقة وثبات، وهو يعرف من أي جغرافية سينمائية ينطلق وأين ستطأ قدماه. لا تبهره متاهات التكنولوجيا الحديثة (التي تميز الجيل الرقمي من المخرجين الشباب) والمحسنات الأسلوبية المستهلكة، واستعمال شطحات الكاميرا دون أن يكون لذلك معنى، والتي انتهت صلاحيتها سينمائيا، ولم تعد تبهر إلا في بلدان ما زالت تعاني من نقص  أو غياب الثقافة السينمائية.

عندما تشاهد ثلاثية عماد بادي، لا تحس أنه يدعي ولا يريد إبهارنا، لا تحس به يريد  أن يبرهن عن أي شيء، ولا يبحث عن تبرير ذاته، ويؤكد أن الشريط القصير ليس فقط تمرينا، وبطاقة تعريف مهني، ولكن عمل متكامل يحمل في طياته الإرهاصات الأولى لمشروع سينمائي يرسم خطواته وملامحه برؤية واضحة وثبات.. وغم ذلك يبهرنا. يبهرنا بصرامته في اختياراته المتقشفة بمعنى الكلمة، وقدرته على الحفاظ عليها دون أي تنازل. إنه يدفعنا إلى تجاوز تقييم الفيلم من جانب القدرة على التحكم، وامتلاك أدوات الكتابة السينمائية، وإتقان الحرفة إلى اقتراح عالم خاص به، لا يمكن مقاربته إلا من داخل مرجعيته، ولا يحتمل منطق التنقيط المدرسي.

جاء “أيام الصيف” في شكل شذرات يجعل من اللقطة وحدته الفيلمية وليس اللقطة كعنصر لتكوين المشهد فقط، حيث أن كل مشهد يعادل لقطة (plan séquence). أسلوب التأطير الفعال، وزاوية التقاط اللقطات تجعلان من الكاميرا تضل طول الفيلم واطئة في مستوى نظر الشخصيات التي قدمتها المشاهد دائما في وضعية الجلوس، بالإضافة إلى ذلك هي أيضا كاميرا ثابتة وعنيدة لا تحيد عن المسافة التي تتأمل منها الشخصيات والفعل الدرامي، حيث تُقطع المكان جاعلةً من “خارج الحقل” كمكون دال وليس فقط كضرورة، الشيء الذي يتيح إمكانية الحصول على سلم لقطات مختلف داخل نفس اللقطة دون أن تتحرك الكاميرا ودون أن يكون هناك تقطيع، أداء صادق للممثلين لا يطمح إلى عفوية مصطنعة، يوحي بأننا أمام شريط وثائقي يسجل الحياة كما هي. تندمج هذه العناصر فيما بينها لتخلق في النهاية موسيقاه الخاصة بإيقاع يجعل من التأمل منطلقا وحيدا للتلقي لأنه يجعل من شبه حكاية ذريعة بما يكفي لخلق جو وعوالم خاصة.

ايام الشتاء- عماد بادي

جاء فيلم “ايام الشتاء” رماديا وأجواءه نحسها مبللة كما أرادها المخرج. تظل الكاميرا طوال الوقت سجينة منزل لم يكتمل بناءه ولا تستطيع الخروج لأن المطر لم يتوقف. إنها كاميرا تتبنى زاوية نظر الشخصية التي يشكل المطر تهديدا لمصدر رزقها، تتبنى زاوية نظر الشخصيات على مستوى السرد، ولكن من الناحية السينمائية هي كاميرا تتأمل الكاميرا. الشخصيات والمواقف من على مسافة بنوع من البرود وما يشبه الحياد، رغم ذلك نتعاطف مع الشخصيات ونحبها دون أن نسقط في الشفقة، والبكائية. اللقطة الأخيرة من الفيلم تشبه إلى حد ما المعجزة ، يحاول  الأب عبثا أن يوقظ النار في الفحم المبلل بواسطة آلة النفخ (الرابوز). يطول الموقف، لكن بدون جدوى. ينتهي الامر بالأب بالتوقف والذهاب يائسا وتبقى الكاميرا في مكانها تتأمل الفحم مدة من الزمن. لا يحصل شيء، وبعد لحظة ونكون قد استنفدنا توقع كل الاحتمالات، وطرح كل الأسئلة، يصعد من الفحم خيط رفيع من الدخان وينتهي الفيلم. رغم كل هذه السوداوية التي طبعت الفيلم، هناك بصيص من الأمل، ربما لأنه في نهاية فصل الشتاء هناك الربيع.

 الجزء الثالث من الرباعية، “يوم خريف” (2017) يتجاوز الفيلم بنا من الانبهار إلى مرحلة التأكيد، وتثبيت ما شاهدناه في “أيام الصيف”، مرورا بـ”أيام الشتاء”، ويؤكد أن هذه الافلام  لم تُقترف بمحض الصدفة، وانما بوعي وتصور واضح. إننا نجد أنفسنا أمام عمل صارم ومتقشف. يؤكد بما لا يدع مجالا لشك أن عماد بادي له عالمه وأسلوبه الخاص، مخرج يحمل في جبته مشروعا سينمائيا سيجعل منه بلا منازع من أهم مخرجينا في القريب. يكفي أن نقتنع به نحن أولا ولا نعطي الفرصة أن يصبح نجاحه المستقبلي مستوردا هو الأخر. في انتظار ذلك، يعدنا عماد في الأمد القريب، والمتوسط على الأقل، بفصل من أجمل ما تبقى من فصول السنة: الربيع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X