خريف التفاح لمحمد مفتكر.. عن الهشاشة والحب

نزار لفراوي

يقدم فيلم “خريف التفاح” لمحمد مفتكر، المتوج حديثا بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم، نموذجا للرهان السينمائي الصعب الجدير بكل فنان حقيقي وحامل رؤية فكرية وجمالية. تناغم العناصر التي تمتح من كل الفنون في تضافر لصنع المعنى و شبه المعنى.

ثمة قصيدة تتنفس في المدى، والألوان، وحوار الماء والنار، تبني معمارها في تجاعيد الوجوه، وأغوار الصمت السحيق. ثمة لوحة يتعاقب فيها الليل والنهار. فناء الدار القروية، شجرة التفاح العزلاء بكثافتها الخضراء التي تلمع فيها ثمار النوع الأحمر، الأبواب الزرقاء الشاحبة. اللقطة الكلية جعلتني زائرا بين الوعي واللاوعي أمام جدارية تشكيلية متكاملة الأركان. موسيقى يونس ميكري ليست حشوا تعبيريا أو محاكاة صوتية للمسار الدرامي ولا فاصل عبور بين تقلباته، بل فاعلا قائم الذات يحيل، ينبئ ويستدعي ما لم يرى وما لم يقال.

تحضر المرجعيات الكلاسيكية الكبرى بقوة. ليس من شأن الممحص تخمين قصدية المخرج المؤلف، نسخا أو إسقاطا. ما يهم أن هذه المرجعيات والأيقونات حضرت ظلالا من نسيج النص البصري وتشكله العضوي، لا مدمجة فيه على سبيل الاستعراض والزخرفة. وهل من إمكانية لمنجز إبداعي كامل الاستقلالية عن سوابق العبقرية والفتح التعبيري المبين؟

آل التسولي في رحاب الشاشة الكبرى

يا لها من مغامرة خطرة أن يستدعى نجوم كرستهم الدراما التلفزية وخشبة المسرح، لخوض امتحان تعبيري شديد الاختلاف في أدواته ولغاته على الشاشة الكبرة. الشيخ محمد التسولي بدا مذهلا في تجربة “خريف التفاح” التي تناجت مع خريف مسيرته الفنية الطويلة والمحترمة. كرس بالفعل مقولة: أداة الممثل جسده.

تقمص ابنه سعد التسولي باقتدار حالة الرجل المطعون المنخور، يعض على غضبه كي لا يخر من فرط الشعور بالانكسار والعار النابت في سرير خيانة تحمله على كراهية شعواء لطفل توطن يقينه بأنه من غير صلبه. سعد حقق التوازن الرهيب بين الطاقة الغضبية الطافحة والهشاشة الباطنية التي تفضحها نظرة منكفئة تؤقت يوميات رجل مهزوم.

فاطمة خير، زوجة سعد، في ثوب الرغبة المضمرة والتمرد الكامن، واحتمالات العيش بعد الخطيئة. هي سيدة الوشاح الأسود، الزي الموحد لنساء القرية، عنوان التشابه القسري والهوية المجهولة، قبل أن تخرق الفضاء بثوب الغواية الجدير بسيدة بيت حرة أمام نظرة مستسلمة للرجل العائد منهكا بالحنين. أداء الممثلين كسب لهم لكنه بالتأكيد استحقاق يدين لمقدرة التحويل والكشف التي أبان عنها المخرج.

عالم مختلف يرسمه محمد مفتكر عن فيلميه السابقين “البراق” و “جوق العميين”، وإن كان الخيط الناظم لا يخفى. السلطة الأبوية سقف يعليه المخرج المؤلف، ليس بالضرورة مبررا لخلق أجواء اندفاع صدامي يصنع حيوية الفيلم، بل أساسا للمساءلة والتفكيك. ولعل الخلاصة تكاد تفضي إلى تبرئة جميع الفرقاء، واعتبار السلطة، ممارسها وموضوعها على السواء، لعبة ضحايا تعددت زوايا حركتهم ووجهات نظرهم، في نسق أنثروبولجي وترتيب اجتماعي عتيد وطيد الأركان والطقوس والإملاءات.

الحب بؤرة الحكاية في فيلم مفتكر الذي طالما أعلن حلمه في الذهاب أبعد من الحكاية. حتى في العلاقة العاصفة بين الرجل (سعد) وابن “العار”، ينزوي الحب في موقع الركن الغائب الذي سينبعث في اليوم التالي ليبدد نيران المشاعر النارية الطارئة. يصور مفتكر الحب في تمسيد الجدة ببالغ الحنو (نعيمة المشرقي) لمفاصل زوجها (محمد التسولي). تذكرت لحظة قوية مماثلة للزوج العجوز بإملشيل في فيلم حكيم بلعباس “محاولة فاشلة لتفسير الحب”. يستجلي الحب أيضا في كنف الحماية التي يكفلها الجدان للطفل المنبوذ، في الطيف الراحل للجدة (نعيمة المشرقي) التي طالما ضبطت حرارة البيت وضمنت عتبة التعايش الصعب بين آله. وربما وجد الحب في الغيمة الماطرة التي تروي الشجرة اليانعة، وتفيض جوف البحيرة النائمة في تخوم القرية. الشجرة تنمو في فضاء يتسيده القفر ويرصفه سطح صخري. السينما تؤمن أن العطايا تتدفق حيث نبض الانسان. جغرافية التقشف تسقط أمام إرادة الحياة وسطوة الحب.

كما في “جوق العميين”، ينتخب مفتكر طفلا ليتأمل بعينيه تطور الأحداث. طفل مفتكر قوي وناضج يصارع ما قد يبدو معطى قدريا، لا بطل مأساوي سلبي. يرسم مفتكر سمات الطفل بأفق الرجل الذي سيؤول إليه، بعد  أن تعركه الملمات.

“خريف التفاح” متوالية بصرية تشعل الحنايا بالمعاني وأشباه المعاني المنفلتة العصية على الكلام. للمرء أن يتخيل الفيلم صامتا. يكاد المكنون البصري والتوضيب الخلاق يكتفي بتعبيريته المتكئة على تركيب دقيق من العناصر، السمعية البصرية، الثابتة والمتحركة، المرئية واللامرئية. لولا أن كل عمل فني يستضمر دعامات بيداغوجية، ليست تفسيرية بالضرورة، بل إيقاعية شعرية أساسا. كذلك بدا الحوار في “خريف التفاح”. تنويع شعري إيحائي لا إخباري.

المتع الرفيعة قاسية لأنها تعري هشاشتنا وتضعنا أمام مرآة المسافة بيت جوهر الكائن ومآله التراجيدي. الفيلم ملحمة سيزيفية لبحث الفرد عن ممكنات الاستمرار بحد أدنى من الرغبة والحب، ولو ناء بثقل الانكسار والخسارة، كأن لذة العيش لا تدرك إلا برديف ملعون ينطوي على فقدان أشياء من الذات، هي نفسها الأشياء التي تعبد الطريق الشائك.

بدا لي البطء لازمة فنية ضرورية لتحقيق الانغمار الروحي الصوفي في الفضاء، بحرارته ونبضه ونمط علاقاته. كان الأمر يتعلق بضرورة جمالية لتصوير طبقات الزمن وفعله في الانسان. كان المطلوب أن نتشبع، لا أن نعرف.

يستمر الحب في “خريف التفاح” بعد إسدال الستار، في متخيل المشاهد الذي يتطلع لمشهد الأب يحضن الطفل المنبوذ، يتبلور في  السيناريو الذهني الذي يكتبه المشاهد بعد أن يطلع الجينيريك. ذلك لأن المحو صنو الإظهار، بل بديله الأنجع في مجال التعبير الفني الرفيع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X