لا أبرئ نفسي من سطوة الانطباعات السريعة والقراءات المسبقة. كنت قد عدلت جلستي في وسط القاعة متحفزا للرحلة في عالم فيلم قصير لا زالت تسكنني شذرات منه قبل أن ألتفت إلى الغريب الذي انتخب مكانه على يميني. تساءلت بوازع مظهره البوهيمي إن كان منبعثا من سبعينيات ناس الغيوان والهيبيز الحالمين بالحب بدل الحرب. شعر كث بلا تصفيف، معطف واسع، أزرار قميصه العلوية مشرعة. عيناه تضيقان حتى مشارف النوم لولا لمعات في الحلكة.. حدثت نفسي بخبث: لعله اختار ظلام قاعة سينما ليسرق قيلولة متمنعة. لحظات مرت ويميل الرجل علي هامسا أنه يعرف مكان التصوير: إنه حي المحيط في الرباط. لم أخبره أني اقطن فيه كي لا يستطيب الحديث. القصة إنسانية مؤثرة لفتاة تكبر في غياب أبيها الكامن خلف القضبان. وجه جديد أظنه كان رجاء عمران…انخطف لانفعالات الممثلة الشابة، وبدا أنه لا يقدر على كتمان وقع السينما والحياة في نفسه فظل يخطب مشاطرة وجدانية مني، وقد تحرجت من حوار يعكر على المتفرجين صمتهم وظلامهم، لكني لم ألبث أن انقدت مجاريا إياه وساعيا إلى نهاية عاجلة للفيلم في ذات الوقت.
تجلت دهشة طفل ولمعة دمع رابض، وأخاديد وجه مصقول بلظى السنين تلين وتتودد، حين انقشع ضوء قاعة روكسي الطنجاوية. با صطوف أين أنت؟ أكثر من صوت تردد وجمع من النقاد ممن كنت حديث المعرفة بهم يلتفون حوله. سألت أحدهم: من يكون هذا الرجل “المشهور”؟
“لقد أنست في هذا الولد حنانا فمكثت قربه…” قال لصديق، وهو يربت على كتفي. ثم ضعنا في زحام المغادرين. لكن العبارة راودت حناياي بسحرها ومفارقتها. في محفل الذكور لا نطلب الحنان جهرا. إنها كلمة مغتالة أو مغمدة تجافي معجم الاعتداد والشدة. ناهيك أنها صاعدة من جوف كهل يخص بها شابا يصغره بأعوام. لقد تعرفت للتو على مصطفى العلواني، والحدث مهرجان طنجة الوطني، قبل عقد من الزمن.
كانت حلقات مناقشة الأفلام تثيرني بقدر العروض نفسها، قبل أن تفقد حلاوتها وفائدتها ويهجرها العارفون. وكان هذا الصوت برنته الحادة، الجريحة والشرسة في الآن ذاته نشازا مثيرا للانتباه. يفرض الصمت بحماسته وصرامته، كما بانزياحاته وسخريته وتمرده على قواعد النقاش العام أحيانا، كلما أسعفته اللحظة وحرقة السؤال. بدأ شتات شخصية فريدة يجتمع في فهمي، وقلم رصاص ينحت قسماته. لأن الرجل بلا ألوان، بلا مساحيق. وجدته جذريا في عشقه السينمائي، يحب الأفلام التي تشد أوتاره ويعانق صانعيها بغمر صوفي مجلل بالقداسة. يدافع عنها بشراسة حد العنف، فيحصد الحب والعداوات. ولا يأبه، لأنه ينسى العدو، ولا يسلو عن ذكر الحبيب. ولعل جلهم ألفوا مسلكه، فإذا هو لهم ولي حميم.
ناقد بمرتبة عاشق. مدرب على رصد الافتعال والضحالة على الشاشة ولو تقنعت بالنظريات المدرسية والأحابيل التقنية. الفيلم عنده متعة قاسية وباهظة الكلفة. صعقة كهرباء تهز الكيان، وإلا كان متواليات صور عابرة، فنسيا منسيا. توتر وانشداد ولعبة خطرة حين تسمح للصور أن تتسلل إلى عروقك، وتتلف سكينة أعصابك، وتبدد وهم الطمأنينة. وهو، بجسارته، يقبل التحدي ويمضي ليعانق العالم البصري عاريا، طريا، إلا من ثقل الذكريات وجبلة الإنسان المفرط في إنسانيته.
في ندوة سينمائية، سينذرنا مصطفى العلواني بأنه يقدم لأول مرة مداخلة مكتوبة، لكنه سريعا سيقطع أوصالها ليفتح الأقواس اللانهائية من وحي اللحظة. لعل الشفاهة ليست هدرا بالضرورة. قدرها أن تكمن تحت الجلد، أو تتناسخ في الكائنات. فكره مغمور بتراث الفلسفة، غربيها وشرقيها، لكن لغته عارية متحررة من المفاهيم المسكوكة التي يفضل إلباسها دارجة الحي المحمدي كما استودعتها الذاكرة المغربية متاهاتها وشعابها.
مصطفى العلواني…حد أدنى من الفوضى المطلوبة خارج المربعات والخانات. ملح المشهد السينمائي المغربي، أمين سر الشغف الجامح وحارس تقاليد المشاهدة الجماعية.
عشت مديدا أيها الضروري اللعين.