كان الغيورون على الموسيقى المغربية الرفيعة، بمختلف ألوانها الحديثة والتراثية، يتطلعون إلى اهتمام الفنانين الشباب بتخليد الأغاني التي أصبحت ذاكرة جماعية عابرة للأزمنة. وأراهم اليوم يتوسلون ممارسي النط والزعيق أن يخلوا سبيل هذه الروائع لولا أن القانون لا ينص على جناية تشويه نص موسيقي غنائي. ولأن رهان فناني الوجبات السريعة إيقاعي محض بلا أي عمق تعبيري إبداعي، فإنهم يتصيدون من الأغاني التراثية مقاطعها السريعة ليستجدوا بها تفاعلا جماهيريا رخيصا في حفلات الشواطئ والساحات المفتوحة. وغالبا ما تكون “الصينية”، رائعة ناس الغيوان، اختيارا سهلا ومبتذلا بالنسبة لعديمي الموهبة، لاختتام وصلاتهم. يستعيدونها باختزال إيقاعي صاخب منتهى غايته حمام جسدي مهلوس.
مناسبة القول إطلالة الفنان المصري الملتزم حمزة نمرة من جديد على عيون التراث الغنائي المغربي، بإعادة توزيع قطعة “الصينية” ضمن مشروعه الواعد، العميق والإنساني ببعث الروائع الموسيقية التراثية في حلل جديدة، وبثها في إطار حلقات تبث على قناة “العربي”، تشمل فضلا عن الشكل النهائي للريمكس، تعريفا بالإطار الاجتماعي والثقافي المصاحب للقطعة ورجالها وامتداداتها. بنفس التألق والإجادة، فعل ذلك مع “ناسي ناس” التي سافر بها إلى جغرافيات بعيدة، مانحا رائعة الراحل محمد رويشة حياة جديدة مع آذان وأذواق لم تكن مبرمجة لاستقبالها. وتابع ذلك مع “خليلي” لمجموعة المشاهب.
في هذه التجربة، وبعد رحلة استكشاف مغربية وتدبر في مرجعيات المتن الغنائي، يسافر حمزة ب “الصينية” من أقصى المغرب لتحاور تجربة مجموعة في أقصى الشرق، هي “أوتوستراد” الأردنية التي تشارك حمزة أداء “الريميكس” المميز للقطعة التي أصبحت عنوان فرقة وجيل.
حمزة ينجح في مشروعه ليس فقط لأنه يشتغل بجدية باحث ومسلح بموهبة حقيقية، بل لأنه يعطي الانطباع الصادق بأن ما يقترحه في خدمة المادة الموسيقية نفسها، لا في ترويج اسمه. حين يغني حمزة، فإنه كأي فنان حقيقي، ينسحب ويتوارى ليظهر ما يعتبره الأهم، جوهر العمل الفني، روحه، ذاكرته، امتداده الوجداني. يؤدي حمزة “الصينية”، أو بالأحرى، مقطعا منها، كما باقي الروائع التي استعادها، بهشاشة حانية، وبإحساس يستضمر العمق الروحي للصرخة الغيوانية، ويفسح لها الكشف عن عبقريتها الثاوية، ولو في دقائق موجزة تماشيا مع إملاءات واقع الفن في العالم اليوم.
إنه قدر سعيد هذا الذي يمكن لعيون من تراثنا الغنائي فسحا للسفر إلى أجيال وشعوب جديدة على متن صفحات التواصل الاجتماعي التي أخلف الرواد، من أمثال بوجميع وباطما،مثال بوجميع وباطما موعدها، لكنه لا يحجب الدرك الاسفل الذي يحاصر هذه الروائع ويبهدلها. فحين يطل هذا الشاب الآتي من بعيد للتحليق بتجربة كان يمكن أن تكون عالمية أكثر مما هي عليه، فإن السيد رشيد باطما، الوريث بالدم والممارسة للرصيد الغيواني، فضل أن يلبس رائعة أخرى من روائع ناس الغيوان، “فين غادي بيا” بمقطعها الذائع الذي كان يناجي فيه الصوت الاستثنائي لشقيقه الأكبر العربي باطما طائر “الباز” في أسر القفص، حلة تأذى لها كل من سمع تلك الوصلة الإعلانية الرديئة التي تبث على إذاعة رياضية خاصة. هذه الأغنية بثقلها الرمزي وإيحاءاتها الشعرية والسياسية، تحول موالها إلى مقطع محور، ركيك وبليد في مديح زيت لمحرك السيارات، على ذات الإيقاع الذي ارتبط في ذاكرة جمهور المجموعة بمعان وأبعاد وأيام قد خلت. وإن كنت ممن ظل يشفق على رشيد الذي حل محل العربي في مجموعة ظلت تقاوم تبعات تساقط أعمدتها، من قساوة المقارنة مع شقيقه الجبار صوتا وإحساسا وأداء وكاريزما، فإن المقارنة في هذا المقام تصبح واجبة وأليمة في نفس الآن. ليس القصد إطلاقا رفع مزايدة مثالية أو موقف مبدئي من الحق في استخدام مثل هذه العيون التراثية في المادة الإعلانية، ومنازعة الفنانين حقهم في الاستفادة المادية من عائدات هذه السوق، خصوصا في ظل ضعف المسار الترويجي للفنون بالمغرب عامة. لكن وجه التوظيف وأدبياته وترشيد اختيار صيغة الترويج المادي مسألة واجبة لحماية القيمة الأدبية الاعتبارية للأثر الفني. ذلك لأن تراث ناس الغيوان، والتراث الغنائي الوطني عموما، ليس قضية عائلة.