كناوة..نشيد الألم تراث إنساني

نزار الفراوي

نشيد الألم وأنين سلاسل العبودية يضرب عميقا في قلب الإنسانية.. موسيقى “كناوة”، الفن التراثي ذو الأصول الزنجية، الذي حفظه أحفاد أفارقة منطقة الساحل الإفريقي وبلاد السودان التاريخية يدخل من الباب الواسع إلى قائمة اليونسكو للتراث اللامادي للإنسانية.

اعتراف متأخر لكنه ينصف مع ذلك إرثا ثقافيا زاخرا اكتسى اليوم طابع العالمية، باستقطاب فنانين بارزين من مختلف الأصقاع، يستهلمون إيقاعاته ويحاورونه.

في بوغوطا كان تتويج عمل دؤوب وطويل النفس. ففي اجتماعها في العاصمة الكولومبية ما بين 9 و14 دجنبر، وافقت الدورة الـ14 لـلجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التابعة لليونسكو، رسميا، على طلب المغرب بتسجيل “كناوة” على قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية.

وكان طبيعيا أن يتصدر المغرب مسار الجهود الرامية لهذا المسعى باعتبار احتضانه تاريخيا لأبناء منطقة جنوب الصحراء الذين انتقلوا إليه إما في إطار قوافل تجارة الرقيق أو بشكل إرادي، حيث ظل الأحفاد حافظين للأناشيد والإيقاعات الصادحة بالمعاناة، والتواقة إلى التحرر وتخليص الذات من الألم عبر طقوس تصعيد وجدانية تنفذ إلى الباطن وترفع المرء إلى مقام متعال على الجسد.

ولئن كان فن كناوة قد ارتبط تاريخيا بالمنحدرين من إفريقيا جنوب الصحراء، إلا أنه تطور وتفاعل مع مختلف مكونات النسيج الاجتماعي والثقافي في المغرب، والجزائر أيضا، ليصبح إرثا ثقافيا وطنيا، وجزءا من الذاكرة الفنية الجماعية، بل فاعلا في صميم الطقوس الاحتفالية وفي محافل الاستشفاء النفسي الجماعي التي تجسدها جلسات ما يسمى ب “الجذبة” في “ليالي” كناوة.

من الأوساط الشعبية، وطقوس الاحتفال ومواسم الأولياء، بدأت موسيقى كناوة التي تناسلت فرقها عبر مختلف مناطق المغرب، تطرق باب العالمية، خصوصا من خلال الدور الذي اضطلعت به المدينة التي أصبحت عاصمة دولية لهذا الفن: الصويرة، (موغادور تاريخيا)، مدينة الرياح التي تطل على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي.

لقد استقطبت هذه المدينة منذ سبعينيات القرن الماضي قوافل شباب الهيبيز المتذمرين من موجة الاستهلاك والتمدن الغربي، والحالمين بعودة إلى زمن الطبيعة والحب. وفي ساحاتها المفتوحة على البحر، وشوارعها الضيقة، اكتشف هؤلاء، ومنهم فنانون عالميون ذائعو الصيت، موسيقى كناوة، بإيقاعاتها الروحية ونظامها الطقوسي، فساهموا في إشعاعها بل واستلهموا أجواءها، وألبسوا موسيقاهم رداء من نسغ حنينها وتوقها للحرية.

أقبل على هذه الموسيقى فنانون مثل بيل لاسويل وأدم رودولف وراندي ويستون، وانتعشت مع الموجة التي دشنتها فرقة ناس الغيوان المغربية الشهيرة، قبل أن يعيد اكتشافها فنانون معاصرون من العالم العربي والغربي. بآلتي “القراقب” و “الهجهوج”، انفتح الإيقاع والصوت الكناوي بسهولة على أحدث الآلات والتيارات الموسيقية ليركب باستحقاق قافلة الألوان الفنية التي ترفع تحدي البقاء أمام هجمة الموسيقى التكنولوجية.

ولا يمكن إغفال الدور الذي اضطلع به مهرجان كناوة الذي تحتضنه الصويرة في موعد منتظم منذ 23 عاما. لقد تجاوز المهرجان طابعه الاحتفالي كتظاهرة تستقطب أشهر فرق وموسيقيي كناوة لتصبح فضاء لتجريب حوار فني وثقافي خلاق بين كناوة ومختلف الأساليب والتيارات الموسيقية في العالم، من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية مرورا بأوروبا.

بالنسبة لجمعية “يرما كناوة” التي تعمل من أجل صيانة هذا الفن، فإن الانضمام إلى هذه القائمة العالمية، ثمرة المجهودات المتواصلة والشراكة المثالية بين السلطات العمومية والفاعلين في المجتمع المدني ومجموعات “كناوة” في كل ربوع البلاد.
ويتيح هذا الانضمام لفن “كناوة” مواصلة انفتاحه على العالم، وتعزيز قدرته على التحاور والتمازج مع تعابير فنية وثقافية أخرى على المستوى العالمي.

لقد تم تقديم أول طلب لوضع “كناوة” على قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو في 2009. وتطلب الأمر عشر سنوات كاملة من المثابرة والمرافعات أجل الإقناع وحشد التأييد لهذا الإنجاز، حسب الجمعية.

وتراهن الجمعية على هذا الانضمام لقائمة التراث اللامادي للإنسانية من أجل إعطاء دفعة جديدة للإنجازات التي تحققت إلى غاية اليوم، بهدف اعتماد الآليات الضرورية لحماية هذا التراث الكناوي وتيسير انتقاله بين مختلف الأجيال. صوت المعاناة الذي يخصب الذاكرة الجماعية ويصهر مكوناتها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X