الـمـواجـهـة الـمـؤجـلـة في الحكي السينمائي

محمد الشريف الطريبق

 

غالبا ما يخطئ البطل في الشخصية التي من المفروض ان يواجهها في المشهد الأخير في أفلام رعاة البقر. إنه يجد نفسه أمام صديق قديم، أتى به إلى الهُنا، أي الأرض الموعودة، هو الأخر نفس الحلم، وجعلتهما الظروف وتَحول مسارات الحياة يتواجهان كأعداء بالنيابة. وهو يحاول أن يطيح بعدوه/صديقه في المواجهة الأخيرة، يكون البطل يقف أمام ذاته، يحاول أن يقتل ماضيه، أن يقتل ما كانه إلى حدود هذه اللحظة/المشهد.

في بداية فيلم “الرجل الذي لا يحمل نجمة” لكينغ فيدور (1955)، يلتقي البطل ديمبسي راي (كيرك دوكلاس) بالشاب جيف جيمسون (ويليام كمبل) الذي ترك أسرته وخرج يبحث عن التجربة والمغامرة. ويكتشفان إنهما يحلمان بالذهاب إلى نفس الوجهة، مدينة “وايمين” الصغيرة بالغرب الأمريكي التي تتحول، مسافة الطريق، إلى الأرض الموعودة. غالبا ما تبدأ حكاية فيلم ويسترن هكذا، عندما يكون البطل قد تعب من حياة التسكع والعمل كمرتزق أو اصطياد المبحوث عنهم، في الحقيقية ممن يشبهونه من أصدقائه القدامى، وتقديمهم للعدالة مقابل مكافأة. ويحلم بشراء “رانش” يقضي فيه ما تبقى من عمره وتحقيق حلم الاستقرار. لكنه في النهاية يعود من حيث أتى، من نقطة الصفر، متخليا عن هذا الحلم، ربما مؤقتا، لأنه يكتشفه وهما، سرابا، فيسافر نحو المجهول، وهو يحس بنوع من المرارة. يكتشف ثمن الاستقرار غاليا أو ربما يكتشف أنه لا يمكن الهروب من قدره/ ماضيه، أو أنه ببساطة أصبح غير مرغوب فيه في مجتمع في طور التحول، من حالة الغزو إلى حالة الاستقرار وبناء المدينة.

يكتمل الشكل الدائري لبناء الفيلم بلقطة معكوسة بالمقارنة مع اللقطة الاولى للفيلم، حيث نرى البطل قادما من بعيد في اتجاه الكاميرا، إلى مقدمة اللقطة. في الأخير، نراه يختفي في عمقها وهو يغادر المدينة، تلك الارض الموعودة التي كان يحلم بالاستقرار بها، وهو يعي أن العدل الذي ساهم في تحقيقيه وضع مؤقت. يرفض طلبات السكان ومن دافع عليهم بالبقاء. إنه يعي أنه محكوم عليه بحياة التسكع في هذا الغرب الشاسع.

1955 – الرجل الذي لا يحمل نجمة لكينغ فيدور

تُصور أغلب أفلام “الويسترن” بتقنية سينما-السكوب لأن المكان بكونه موضوع الصراع، يحضر في اللقطة لا كفضاء لاستيعاب الفعل الدرامي فقط، ولكن كشخصية رئيسية. يحكي “الويسترن” حكاية صراع الانسان والمكان الذي يتطلب غزوه، ترويضه، وبناء حضارة تقطع في البداية مع السكان الأصليين/ الهنود الحمرأ، وفي فترة لاحقة طي صفحة زمن الغزو.

جاءت صورة الهنود الحمر السلبية في بعض افلام الويسترن كنتيجة منطقية لكون هذه الأفلام تحكى من وجهة نظر البيض/ المعمرين، وبالتالي نحن مجبرين على التماهى معهم، مع حلم الأبطال بغزو الغرب الشاسع وجمع ثروة. وبالتالي من الطبيعي أن يتحول الهندي، ذلك الآخر الذي لا نعرف عنه شيئا، إلى عدو. لأن أهدافه، مهما كانت نبيلة ومشروعة، تتعارض مع أبطال الفيلم الذين نتماهى معهم كمتفرجين، حتى بالنسبة لمتفرج متعاطف كليا مع قضية الهنود الحمر وفق المنطق الدرامي.

عوض مساءلة الصورة التي تنتجها هذه النوعية من الأفلام، يجب مساءلة زاوية نظر الحكي. لأنها، أي صورة الهندي، نتيجة منطقية لهذا الاختيار السردي. نحن لا نعرف الهندي، لم يجعلنا الفيلم نتواطأ معه من خلال الولوج إلى حميميته، إلى بعض تفاصيل حياته اليومية، وإلى علاقته الاجتماعية، وأحاسيسه. وبالتالي يصبح مؤهلا ليلعب دور عدو من الدرجة الثانية. ولا يحظى حتى بأن يكون موضوع مواجهة في اخر الفيلم، لأن ذلك كان سيمنحه درجة تعادل موقع البطل. اعطاء الهندي أو الزنجي دورا أكثر  من كونه يؤثث الفضاء لم يكن ليكون مقبولا من طرف المتفرج الأمريكي انداك.

خلق حصول فيلم”الهجوم”/ ” The Attack” لزياد الدويري (انتاج قطري، لبناني  فرنسي-  2012) على النجمة الذهبية في إحدى دورات مهرجان مراكش الدولي ضجة لأن البعض اعتبر هذا الفيلم منحازا إلى فكرة التطبيع مع العدو الإسرائيلي. الفيلم في الحقيقية تجرأ فقط على وضع كاميراته أو لنقل زاوية نظر الحكي في الجهة الأخرى من الصراع، في زاوية نظر غير متوقعة. الفيلم يُحكي من وجهة نظر فلسطيني مندمج في المجتمع الإسرائيلي. فلسطيني ينظر إلى الصراع من الجهة الاخرى. نتذكر كذلك الضجة التي كان قد خلقها فيلم “عرس الجليل” (1986) لميشيل خليفي. فلكي يحصل رب عائلة فلسطيني على ترخيص لإقامة حفل زفاف ابنه يضطر إلى استدعاء المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين للمنطقة. الفيلم في النهاية، وبحكم هذا الوضع المؤقت لزمن الحفل، يضع الجنود الإسرائيليين في وضعية تقدمهم بصورة مختلفة عن نشرات الأخبار وأدبيات القضية العربية. لم يقبل جزء من الجمهور العربي فرضية أن يكون للجندي الإسرائيلي جانب انساني، وأن يكون هناك نوع من التصالح ولو مؤقت بينه، أي الجندي الإسرائيلي، وبين الفلسطيني.

في المنطق الدرامي،  يتمتع البطل Protagonist، وخصمه Antagoniste، بنفس درجة الذكاء والقوة، ويمكن أن يكون الخصم أقوى. لكن الذي يميز البطل هو وجوده مدافعا بوعي أو بدونه عن نفس القيم المتفق عليها التي تؤسس لبناء أي مجتمع كيفما كان. وبالتالي يصبح موضوع تماهينا، وتعارضنا مع الخصم الذي  يهدد وجوده بفرض قيم معارضة. هذا الخصم، الذي تجعلنا زاوية نظر السرد لا نحتاج إلى معرفته، مكتفين  بصورة نمطية عنه، تتناسب ورغبة المتفرج النفسية في الانتقام من الشر، وتحقيق العدالة نظريا.

إن تصور شخصية ما خلال الكتابة يتطور بمنطق يجعلها مستقلة عن كاتبها، منطق يجعلها على الاقل في داخلها مقتنعة بعدالة قضيتها، بغض النظر عن سلبيتها أو ايجابيتها بالنسبة للمتفرج. عندما تقرر شخصية مثلا  فعل القتل أو السرقة كرد فعل ما أو وهي تستعد لذلك، وهي تقوم بذلك، لا يخطر في ذهنها ان ما تقوم به شر و لا تعي تبعاته. ولكن هذا الفعل يصبح مشروعا لأنه تحقيق لعدالة ما من موقف شخصي. وعندما يختار كاتب الفيلم أن يحكي الفيلم من وجهة نظرها، يورطنا، بوعي منه أو بدونه، فيما يعيدنا إلى هشاشة أفكارنا وأحكامنا،  وأن ما كنا نعتبره قناعة، نكتشف أننا نؤمن به بدون وعي. لذا نخاف من مواجهة حقيقة أخرى، مختلفة على التي توعدناها.

تغيير موقع زاوية الرؤية، ومحاولة التموقع في زاوية نظر الآخر ايمانا بنسبية الأشياء ومعرفة العدو، بعيدا عن الأحكام المسبقة، تمرين صعب وجريء يقتضي شجاعة فكرية كبيرة.

البطل الذي كنا في طفولة سينيفيليتنا نعتقد أنه شخصية استثنائية وخارقة نتماهى مع انجازاته، هو في الحقيقية شخص منكسر، فاشل، يثقل كاهله ماض  يبحث عن فرصة للتخلص منه ونسيانه. يعي في النهاية استحالة القطع معه، ويعي عبيثة القيم والقضايا التي كان يدافع عنها أو يعي في قرارات نفسه بأن التغيير لا يكون بشكل فردي. يعي بما يجعله ليس بطلا دون أن يكون ذلك معلنا، إنه يكتشف أن الذين كان يعتقدهم أعداء ليسوا أعداء حقيقيين، وانهم اداة في أيدي نفس الجهات التي من المفروض أن تحقق العدل، والتي يشتغل هو ذاته لحسابها. إنه ليس بطلا ولكن فقط شخصية رئيسية، وصورتنا إلى حد ما. ربما تذهب كل الافلام الغربية في غفلة من صانعيها أن للفرد حدود، وان التغيير ليس ممكنا بالعمق المسيحي لفكرة المسيح المخلص.

رحلة الشخصية في أي فيلم هي رحلة في الاتجاه المعاكس، رحلة مجازية للعودة للذات، تبدو في ظاهرها خطية لكنها ليست كذلك. السرد الخطي هو وهم يوجد فقط ليرتب الأشياء والأفكار، ويهيكل البناء، ويوهم بنوع من الواقعية لأنه يبدو مشابها إلى حد ما للشكل الذي  تتعاقب به الاحداث في الواقع. ووهم لأن السرد في الحقيقية لا يتقدم بشكل خطي متصاعد لكنه لا يتوقف، حتى في الخطاطات الدرامية المتعارف عليها، عن العودة إلى الخلف واستعادة الماضي والتوقف، والعودة الأبدية إلى نقطة الصفر لحل أزمات الحاضر والماضي معا… الفيلم سفر في الاتجاه المعاكس، أو أنه سفر ثابت نتأمل من خلاله الوضع الإنساني. ونهايات الأفلام في الحقيقة خادعة، وُجدت حتى لا يصاب المتفرج العادي، الذي يعتبر ما يشاهده على الشاشة واقعا، بخيبة آمل.

إن رحلة البطل في فيلم الويسترن مثلا هي رحلة استثنائية بكل المقاييس، تستعاد فيها الذكريات وأمجاد الزمن الماضي الذي ولى. يحاول فيه البطل أن يسد قوس حياته إلى حدود الآن. رحلة استثنائية لأنها رحلة لمقاومة الموت، أو الاستعداد له. إنها بشكل مجازي تحكي نهاية الزمن الذي على البطل تقبله، زمن الغزو وبداية الاستقرار وحلم بناء المدينة. فيلم الويسترن ينتصر إلى الحلم الجماعي للإستقرار، ضدا على رغبة البطل في نفس الحلم، لأن الأخير يذكر بزمن كان يجب القطع معه.

عندما يقبض المفتش في الأفلام البوليسية في النهاية أو يقتل من يشبهه، يكتشف هو الأخر انه ليس هو المجرم الحقيقي، ويعي في نفس الآن أنه ليس له اختيار أخر. إذا كان بطل فيلم الويسترن يغادر من حيث أتى في البداية فإن بطل الفيلم البوليسي يجد نفسه امام اختيارين: الاستقالة أو أن يستمر في خدمة مصالح الطبقة البرجوازية المتحكمة في كل دواليب اللعبة، وأن  يستمر في مسح آثار  جرائمها.

اذا كانت أفلام الويسترن هي الفصل الأول من أسطورة الغرب الأمريكي فإن الفيلم البوليسي بكل تنويعاته هو فصلها الثاني. في فيلم الويسترن كانت تبدو الحاضرة/ المدينة التي يحل بها البطل تعيش في انسجام تام، إلى درجة أن الغريب لا يتم قبوله من الوهلة الأولى. لكننا لا نتأخر في ان نكتشف أن الوضع كذلك بحكم قانون الصمت الذي يفرضه ملاك أراضي كبير يوظف مرتزقة لترويع الملاكين الصغار ودفعهم إلى البيع والهجرة، جاعلا في بعض الحالات مسئول الأمن تحت تصرفه. في الفيلم البوليسي، الضابط الذي يقود البحث ليس ذلك الغريب القادم من حيث لا نعلم. إنه شخص يعيش في نفس المجتمع، ولكن على هامشه، بدون وضع اجتماعي محدد، انه غالبا شخص  متمرد، منطوي على ذاته، ورغم مظهره العنيف فهو حنون عطوف، مما يجعل منه غريبا، ويعطيه بعدا نفسيا، كان يفتقده بطل الويسترن.

الفيلم البوليسي يحكي عن مجتمع قد تطور واصبحت تناقضاته معقدة بالمقارنة مع أفلام الويسترن. وبالتالي عوض المواجهة، يجد البطل نفسه أمام لغز عليه فكه. وهو يتقدم في البحث والتحقيق، يصبح المفتش هو نفسه من يهدد لأنه يزيل القناع عن المجرمين الحقيقيين الذي يُقدمون في البداية على أنهم من المفروض أن يسهروا على تحقيق العدل، يشكك ويهدد التوازن الظاهري و الخادع الذي يقوم عليه المجتمع، لأنه يكتشف أن المبادئ والقيم التي يقوم عليها ما هي إلا وسيلة للسيطرة والحفاظ على مصالح وواجِهات اجتماعية لطبقة معينة. الفيلم البوليسي ينتهي هو أيضا بخيبة أمل واحساس بالمرارة والاحباط لأن المسؤولبن الحقيقيين عما حصل لم ولن يتزحزحوا عن مواقعهم. وأن الامر لا يعدو أن يكون تمثيلية لتطمين الرأي العام، والفوز بولاية جديدة لمسؤول الأمن وعمدة المدينة.

رغم أن جل نهايات القصص تخلص كلها في اتجاه التصالح مع الذات والأخر، بمعنى آخر التخلص من الاحكام الجاهزة، لكنها لا تتجاوز حدودا معينة، اي في حدود الحفاظ على الوضع القائم. القصص التي تحكيها لنا الافلام تدور في العمق في حلقة مفرغة، إنها توهمنا زمن العرض أن التغيير الشخصي/ الذاتي والتصالح مع الذات، أو مع الاخر ممكن ومستحيل في نفس الآن. وكأنها تنم داخليا عن صراع بين كونها من المفروض عليها أن تَخلص إلى إنتاج العبر، لتحقيق نوع من المشروعية على ما هو في الاصل فرجة وتسلية، وفرصة للحفاظ على نفس القيم المتفق عليها. إنها وهي تشكك في بعض المسلمات وتعيد النظر فيها، لا تذهب أبعد من ذلك لتعود في النهاية إلى الانتصار لنفس القيم. لأنها ترفض تناقضها وفراغها من المعنى وعبثية الحياة، وتحاول ان تكون ايجابية ومُحبكة، بشكل يجعل الواقع يبدو منظما، وكل واحد يلتزم موقعه/ مكانته الاجتماعية  بالشكل الذي يجعل منها سلعة متناولة ومربحة. بين قوسين، الابداع السينمائي يقع خارج هذه المنظومة، وخطاطاتها الدرامية.

تبقى المواجهة الاخيرة الحقيقية بين البطل وعدوه مواجهة مؤجلة أو مستحيلة، لأنه ببساطة ليس من دور السينما أن تحسم الصراع وتقدم الحلول. مبدأ التطهير الذي ترتكز عليه الدراما بالمنطق الأريسطي مبدأ غير نزيه لأنه ينبني على الخداع، ويتعامل مع المتفرج بمنطق المريض النفسي أو ناقص عقل يجب ايهامه بأن العدل قد تحقق، وأن الأشرار تم عقابهم، وأن الشخصيات الخَيِّرة، ستعيش في نعيم أبدي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X