من خروج العمال من المعمل إلى السيلفي والمباشر

لم تكن السينما في السنوات الأولى لاكتشافها تحتاج إلى رسم حدود بين ما هو سينمائي، وما هو ليس كذلك، ولم تكن تحتمل في بداياتها أي فكرة التباس. كان كل ما يصور بكاميرا تلتقط الصور المتحركة، يعتبر سينما دون أي تمييز بين الوثائقي والروائي، بين ما هو سينمائي أو ما هو سمعي-بصري. كانت الامور بالبساطة، بحيث أن الجمهور كان ينتقل إلى مكان العرض، لمشاهدة أشياء بسيطة، مندهشا بطراوة هذا الاختراع الجديد الذي يُمكن من مشاهدة الحياة كما هي، أي اختراع يجعل من الحياة اليومية، والأشياء المتعودة فرجة.

أَوجدت تقاليد التصوير الفوتوغرافي، ثم الصعوبات التقنية منذ بداية اكتشاف السينماتوغراف مرحلة التحضير، التي يجب أن تسبق فعل التصوير السينمائي، حيث أن ضعف حساسية الفيلم كانت  تتطلب وجود كمية هائلة من الضوء، حتى تكون هناك صورة مرئية، وكانت بكرة الفيلم لا تسمح بتصوير أكثر من دقيقة، بعدها يجب تغير وتفريغ الفيلم الخام في حجرة مظلمة، واعادة تركيب شريط خام أخر، وبعث الشريط المصور إلى المختبر للتحميض والطبع، الشي الذي يضطر المخرج/المصور إلى التفكير في الموضوع المصور، وفي المعيقات التقنية، وأيضا في جدوى ما يصوره، واستعماله، لكون فعل التصوير السينمائي والفوتوغرافي كان حدثان استثنائيان، ونادران بامتياز.

بعد أكثر من قرن بقليل، تكون السينما قد قطعت اشواطا مهمة، تطورت تقنيا، تعلمت الحركة، وأصبحت ناطقة ثم ملونة، تعلمت الحيل والخدع، أصبحت شاشتها عملاقة، وصوتها دائريا، تخلت عن الفيلم الخام، واصبحت الكاميرا أقل حجما، وأكثر حساسية، بالشكل الذي يجعلها اكثر استعدادا على اقتناص الواقع في أدق التفاصيل، أي التأقلم مع كل الظروف. صاغت لغتها بالشكل الذي جعلها الفن الاكثر تعبيرا عن زمانها والاكثر شعبية، وفي نفس الآن تعممت على سائر الشعوب والفئات الاجتماعية.

في الطريق أيضا صاغت السينما لغتها، ثم ما فتأت أن تخلت عن جزء منها، وارتسمت مع الزمن الحدود بوضوح بين ما هو سينمائي وبين ما هو ليس كذلك. أو بمعنى أ

صورة من فيلم “الخروج من المعمل” للأخوين ليميير

خر، بين ما هو سينمائي وبين ما هو سمعي-بصري، وبين استعمالات اخرى للصور المتحركة، في المراقبة، والبحث العلمي إلى غير ذلك .

في الطريق، تحول فعل التصوير من فعل يتطلب التحضير والوعي به،  إلى فعل عفوي واوتوماتيكي، ربما في حالات لا يحمل ولا ينتج اي معنى. ارتسمت حدود فاصلة بين فعل تصوير تتحكم فيه نية فنية ورؤية جمالية، وبين فعل تصوير، يشبه تلك الأفعال اليومية التلقائية التي نقوم قوم بها دون أي تفكير، قد ننساه مباشرة بعد القيام بها. هناك صور نأخذها بنفس المنطق، ونحن لا نعرف لماذا نفعل ذلك. صور وفيديوهات لا نعود إلها إلا لماما، في حالات الضجر لنملأ  فراغ الانتظار، صور وفيديوهات تضيع/ غالبا مع الجهاز الهاتف أو تغييره. ربما لا نعود إليها لعددها الهائل لعدم وجود أي انتقاء قبلي، عند الالتقاط.

صدفة رأيت فيديو لأحد نجوم الغناء الشعبي الشبابي الاكثر شهرة في فترة كتابة هذه السطور، وهو فيديو يصور المغني وهو  يستعد لصعود الخشبة لأداء عرضه. عندما يصل الأخير إلى المنصة تحت تصفيقات الجمهور وهتافاته، تقوم الكاميرا بحركة بانورامية في اتجاه الجمهور الحاضر، نتفاجأ بمجموعة من نقاط الضوء وفلاشات لا تتوقف تحجب تماما الوجوه، أي أن الفئة الكبرى من الجمهور تقوم في اللحظة بالتصوير رافعة هواتفها النقالة، وتحرم بذلك نفسها من الاستمتاع بالمغني مباشرة، وتأجل ذلك لمشاهدته على جهاز التلفون في لحظة لاحقة، مع العلم أن نفس الأغنية قد تكون متوفر على الشبكة العنكبوتية بجودة عالية، وأن الاستمتاع بالعرض المباشر لا تعادله مشاهدته منقولا، ولو بجودة عالية.

مرة أخرى، وانا اعبر في الصيف الماضي نهر اللوكوس على متن قارب يحملني إلى الضفة الاخرى حيث المدينة، عائدا من الشاطئ حيث قضيت اليوم، اثارت انتباهي شابة تجلس بجانبي في حوالي السابعة عشر باكية وهي ترتعد، تستنجد بدراع امها، خائفة من تمايل القارب بفعل تيار خفيف عاد. كان يبدو أنها المرة الأولى التي تركب فيها هذه العائلة القارب.  وهي كذلك، أي وهي باكية من شدة الخوف، كانت الشابة تشير خفية لشابة في سنها تصاحبها، ربما ابنة خالتها، أن تأخذ لها صورة وهي تمدها بهاتفها. لم تمنع حالة الخوف، والفزع الفتاة من التفكير في المواقع الاجتماعية، وفيما يمكن ان تحققه هذه الصورة من اللايكات وتعاطف افتراضي. لقد حول الانتشار المهول لإمكانية التصوير، وسهولة النشر على مواقع التواصل الاجتماعي بلمسة زر، وغياب محتوى يمكن تقاسمه، التلصص الذاتي إلى فعل عفوي،  لا تحده أية قيود، ولا الحدود الفاصلة بين ما يمكن ان يظل حميميا وبين ما يمكن نشره في الفضاء العمومي الافتراضي.

أصبح التصوير كذلك، وبفعل التكرار وسهولة الاستعمال، إلى فعل لا تحده قيود، ولا يضيف إلى الذاكرة أي طبقة جديدة، بالعكس انه يلغيها ولا ينتج المعنى، ويصبح فعل التصوير وسيطا/حاجزا بيننا وبين الحياة، يلغي التأمل، وينغلق على فعل التصوير على ذاته بنوع من الانانية المفرطة.

إن الانسان حينما يشغل كاميرته أمام اشياء تثيره، كيفما كانت طبيعتها، فإنه بمعنى ما، يحاول امتلاكها، والاحتفاظ بها، أي القبض على الزمن الهارب وتثبيته. لكن الكثرة والتكرار تفسد هذه الرغبة، وتجعل الامتلاك لحظيا، ينتج عنه فعل بلا تاريخ لأنه عفوي حتى التفاهة. في زمن الندرة، كان التصوير(فيديو أو صور ثابتة) حدثا استثنائيا، له طقوس ينبني على تعاقد يحترم الحق في الصورة. سواء تعلق الامر بعمل احترافي أو شخصي.

إن اللقطات الأولى في تاريخ السينما صورت أحداثا بسيطة، يومية  لكنها استثنائية رغم ذلك. استثنائية بذاتها، ومن خلال طريقة تناولها إخراجيا، ولو في غياب لغة سينمائية واضحة المعالم بحكم ظروف البدايات. حينما وضع الاخوة لوميير الكاميرا أمام مدخل معملهما ليصورا خروج العمال، كأول فعل تصوير في تاريخ الانسانية، كانت النتيجة لقطة تحترم معايير التكوين البصرية، وكمية الضوء اللازمة لتكون هناك صورة، وأيضا، وبــ”ميزانسين” يعيد ترتيب تحرك الشخوص داخل فضاء اللقطة بشكل متناسق، يكثف الفعل في مدة زمنية لا تتجاوز 52 ثانية. احترم الاخوة لوميير نفس المنطق في باق اللقطات الاخرى التي صورا أغلبها في محيطيهما العائلي قبل أن يرسلا مصوريهما لتصوير مناظر من مختلف بقاع العالم لتلبية طلب الجمهور المتزايد.

يصبح فعل التصوير ممكنا من الناحية الانطولوجية عندما تسبقه معرفة بالموضوع المصور ووجود علاقة ما معه، معرفة كافية لتتبلور مقصدية ما، أكانت فنية أو غيرها. فالاخوة لوميير عندما قررا وضع الكاميرا أمام مدخل معملهما ليصورا العمال وهم خارجين، كان يعرفان هذا الفعل إلى درجة أنهما يبدو صوراه في غير ساعته لضرورة متعلقة بالإضاءة خصوصا، وانهما اعادا تصوير نفس اللقطة ثلاث مرات في لحظات متفرقة. في الأفلام الاخرى أو بالأحرى، في اللقطات الاخرى نرى نفس العلاقة مع المواضيع المصورة سواء تعلق الامر بفطور عائلة لوميير أو الخطوات الاولى لابنة أحد الاخوة لوميير. كما في فيلم ”خروج العمال من المعمل” أو ”وصول القطار إلى محطة سيوطا” أو ”الخطوات الأولى لرضيعة” وأفلام أخرى، تقف الكاميرا على مسافة من الحدث، تتوقع حدوثه الشيء الذي يجعل الموضوع المصور يأتي في اتجاه الكاميرا، في اتجاهنا، نحن الجمهور.

لتستعيد فيديوهاتنا، وصورنا وربما حتى أفلامنا طراوتها واستثنائيتها، يجب أن نستحضر سحر ودهشة البدايات ونفعل وكأننا نفعل ذلك لأول وآخر مرة. فعوض الندرة يجب ان تحضر المسؤولية ولو تعلق الامر فقط بلمسة زر لا تكلف شيئا، وأن تكون العفوية كقيمة، وليست محددا للفعل، ومحفزا له. إن محاولة القبض على الزمن فعل، خصوصا اذا كان الزمن حاضرا، يتطلب درجة عالية من الوعي به وفهمه. خصوصا اذا كان  شكل التعبير قد سافر طويلا، وراكم ما يكفي من احتمالات العلاقة التي يمكن أن نقيمها معه، ومع لغته التي ليست في النهاية إلا الواقع.

هل يمكن أن نتحدث عن أمية بصرية، أو عمى ذهني، يجعل من شخص ما يصور، وهو لا يعرف أو لا يرى ما يرى، ولا يتضمن الفعل الذي يقوم به اي درجة من الذهنية، لا من خلال الاختيار الجمالي المتعلق بتكوين الاطار والاضاءة أو الفكرة التي يريد أن يصيغها وهو يضع بينه وبين الواقع عدسات/وسيط؟ أي أنه من خلال الصورة التي لا تحتمل في تحديدها أي تبئير داخلي أو ذهنية يمكن أن تصبح كذلك عندما تكون نتيجة مسار فني وكإجابة عن مجموعة من الاسئلة قبل واثناء التصوير، يمكن آنذاك أن تصبح الصورة عكس ظاهرها. أسئلة بسيطة مثل : ماذا نصور؟ لماذا نصور؟ وكيف؟ …إلى غير ذلك، ببساطة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X