موت المثقف، ولادة الدجال

في الوقت الذي كان الشعب الفرنسي يودع أيقونته الغنائية جوني هاليداي، بالصخب الإعلامي والرعاية الرئاسية والحداد الوطني اللائق به، كان ثلة من المفكرين والكتاب الفرنسيين يُحيون الذكرى العاشرة لوفاة جوليان غراك، أحد أكبر عمالقة الأدب الفرنسي والعالمي. كانت جنازة أيقونة الأغنية الفرنسية تجمع الشعب الفرنسي بحضور رئيس الجمهورية… فيما لم يحضر الاحتفاء بصوت الأمة الفرنسية، الأديب، سوى ثلة من أصدقائه الأدباء والكتاب…

حين كتب ريجيس دوبري عن جنازة جوني هاليداي في جريدة لوموند الفرنسية، لم يكن ذلك قصد أن يكون مقاله ضد التيار، وإنما للتذكير فقط بالتحولات التي تعرفها المجتمعات في علاقتها بالمتخيل الثقافي. كان الشاعر صوت الأمة، ثم صار الروائي يتصدر التعبير عن المجتمع، إلى أن دخلنا عصر الصورة والتداول البصري، فأضحى المغني والممثل يغطي على كل ما عداه. يعود ريجيس دوبري إلى تصنيفه (الذي اقترحه في كتابيه: دروس في الوسائطية العامة، ثم في: حياة الصورة وموتها، بترجمتنا إلى اللغة العربية) كما ليعيد النظر ولو بشكل ضمني في توالي دائرة الخطاب، ودائرة الكتابة ثم دائرة الفيديو. والحقيقة أن الدائرة الأخيرة قد خلخلت بشكل واضح الدائرتين الأوليين واحتوتهما في ما يشبه التمثل الهيغلي الجدلي. فعالم الصور هو بشكل عودة للشفوية القديمة بذاكرتها الضعيفة التي يطويها النسيان، مهما كانت مقامة الذاكرة فعالة.

المجرد والمعتل والمزيد

في الوقت الذي كانت فيه أيقونة الطرب العربي أم كلثوم تهز أفئدة الرجال والشباب والنساء، كانت أسماء من قبيل جمال عبد الناصر والعقاد وطه حسين لا تقل أهمية، وتخترق قاعة الدرس والنقاشات السياسية. كان صوت أم كلثوم يؤثث الليالي، فيما كانت أفكار المثقفين العرب تلهب الألسن في حمأة الصراعات اليومية. كان حينها التوازن بين المرئي والمسموع والمقروء في أوجه، بل كان المرئي والمسموع يمتح أهميته من المقروء. مع الزمن ومع ظهور التلفزيون وتغلغله في حياة الناس، وبالرغم من تخلف التلفزيونات العربية، الرسمية منها على الأقل، فإن الشاشة صارت تبتكر يوميَّنا، بحيث صار للأغنية قنواتها المائزة، وللرياضة ما لا يحصى منها، وللدين قنواته التي لا يقتصر فقط بعضها على الوعظ والإرشاد وإنما على سنّ تقاليد جديدة لم تكن معروفة للأغنية “الملتزمة”: افهموا من العبارة أنها ملزمة بالتغني بموضوعات عقدية لا علاقة لها بأغاني مرسيل والشيخ إمام وغيرهما…

وحتى لا نستعيد التأبين البهيج الذي حظي به مغني الروك الراحل كما استعاده ريجيس دوبري، لنقارنْه نحن بضرب آخر أسال مداد الفيسبوك والصحافة ومنتديات الشباب، أعني واقعة سعد المجرد بباريس، أي بالمدينة التي تم فيها تأبين المغني. طبعا لا يتعلق الأمر هنا بوفاة وتأبين، بقدر ما يتصل بواقعة اتهام بالاغتصاب، لا تهمنا بقدر ما تهمنا ما أثارته.

لم يهتم المغاربة في مواقع التواصل الاجتماعي بالحالة التي تؤول لها الوضعية الصحية للعديد من اللاعبين المرموقين لكرة القدم الذين تقدم الصحافة عنهم بين الفينة والأخرى أخبارا مقتضبة تدعو للغضب أكثر مما تدعو للشفقة؛ بل إنهم لا يهتمون إلا نادرا بالحالة الصحية العويصة لأصوات نسوية وغير نسوية أطربت الجموع في السبعينيات والثمانينيات… إن ما تهتم به هذه المواقع أكثر هي الفضائح والهنات، وكأنها غدت رقيبا اجتماعيا. والحقيقة أن سعد المجرد لو لم يكن فنانا ذائع الصيت، صار بين ليلة وضحاها نجما ساطعا في سماوات الأغنية السبع، لم يكن قد أثار هذا الانقسام بين الناس بين منافح ومندّد. وكليباته المليئة بالألوان الصارخة والرقص الصاخب صارت أنموذجا وأسوة جسدية ومظهرية للشباب، مثله في ذلك (ولو أن المقارنة عصية بعض الشيء) الأب جوني هاليداي.

في عصر الصورة تحولت النجوم إلى شموس، وصارت أيقونات يتعبد بها في هذه الوثنية الجديدة التي جاء بها عالم الصور. وطريقة لباس الشابة الأبدية سميرة بنسعيد كما تسريحتها صارت أشبه بالكرامة التي تخلق النموذج اللازم احتذاؤه. فعجز الصورة عن الإمساك ببواطن الكائن الإنساني يجعلها تتجه نحو المظهري ومن ثم نحو الحسي والمثير، أي كل ما يمس اللحظي والعاطفي في غيبة التفكير الذي تمكّن منه المسافة القرائية والسمعية مع اللغوي. تمسك الصورة بالعلامة والمكتوب كي تستخدمه كتابع لاحق، وكعلامات توضيحية لا أكثر ولا أقل، أي كتوكيد لسلطة الصورة وجبروتها.

موت المثقف، ولادة الدّجال

في السنوات الأخيرة، صارت دور النشر التي كانت تنشر بآلاف النسخ لا تكاد تتجاوز إلا في حالات نادرة الألف نسخة. وصار الكتاب يخضع لقرصنة ممنهجة بحيث إنك تجد صورته (بالبّي دي إيف) أياما قبل صدوره، بحيث يمكنك أن تقرأه على شاشة هاتفك متى شئت. وبين القراءة والعودة لها، يسرح “القارئ” في عوالم أخرى من شاشته، من دردشة وإنصات/مشاهدة للموسيقى، ومشاهدة فيلم، أو التسكع في عوالم اليوتوب الفاضحة… بالمقابل، أضحى المثقف ليس ذلك الذي يكتب وينشر، بل ذلك الذي تحتضنه قنوات التلفزيون، إما لدفاعه عن قضايا لم يكن يكاد يجهر بها فيما قبل، أو لدفاعه عن أقلية لغوية وعرقية يربطها في معرض الهذيان الثقافي الجديد بالتدخل في قضايا الإرث وزنا المحارم ومقارعة الفتاوى، الخ. هذا النوع من المثقف “الجديد” لا يصدر في مواقفه وتجلياته الصحافية عن أبحاث منشورة أو كتب مقروءة بقدر ما يصدر عن هواه “الحداثي” الذي قد نتفق مع نواياه ومقاصده، من غير أن نسايره في بحثه عن الأضواء. إنه ابتكار للهامشية في قلب الصورة. وما تمتلكه الصورة (خاصة منها المنتشرة عبر الإنترنت والتلفزيون) لا علاقة له البتة بالهامش.

من ناحية أخرى، ثمة ضرب آخر من هذا المثقف الدجال، الذي يخرج لنا من قلب المؤسسة البصرية، التلفزيونية منها بالأخص. فتراه ينتقل من ضباب المغمور إلى أنوار الولادة الجديدة، خالقا لنفسه سلطة الفصل والوصل، ضاربا عصفورين بحجر واحد، يسوق منتجه بصورته أكثر من فحواه، فيغدو سفيرا ثقافيا متجولا في عبور “الوطن العربي”، وكلما فتحت مجلة غير محكمة تدفع للناشرين بها وجدته يتصدر قائمة المشاركين المساهمين.

ليس الغرض من هذا التوصيف القدح بقدر ما هو التصنيف. فولادة المثقف الدجال لا يمكن إلا أن تكون عوضا للمثقف الذي صار اليوم تقليديا في تحكم الصورة في دواليب الثقافة والوعي والسياسة. فالصحافي صار المتدخل الأساس في المجال الثقافي والسياسي، بحيث صارت كلمته الفصل في من يجعل منه خبيرا ومثقفا ومتخصصا في الأمور التي يرغب في طرقها. بل إنه يتحدث في كل الأمور بلهجة العارف ببواطن الأمور وخباياها، يمنحنا تشخيص الوضع السياسي والثقافي طورا ويناقضه شهورا بعد ذلك. والمواقع الثقافية الالكترونية،تكرس أسماء كثيرة لا يمكن أن تبدأ قراءتها من غير أن تصاب بعسر الهضم والإسهال الثقافي، نظرا لغياب عمق التحليل وبعد النظر، بل أحيانا لأن المنشور كليا أو جزئيا منقول بتقنية القص واللصق…

هذه الظواهر الثقافية التي تمس ممارسة الكتابة في عصر الصورة لا يمكن الإمساك بنسقيتها إلا حين ندرك التباس الصورة، وقدرتها على أن تنتج سياساتها ومنظوماتها وانقلاباتها على المنظومات السابقة، بل على بعض مراحلها السابقة. إنها هي نفسها التي تقتل المثقف كما عشناه وعهدناه وأدركناه، كي تلد مثقفا جديدا هجينا وشهبا تسير بإيقاع الصورة الفائض المتوالد، الذي يقتل بلا رحمة النجوم السابقة ليبتكر له أخرى…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X