البينالات العربية.. موت مبكر

فريد الزاهي

بينالي مراكش لن يقام هذه السنة. هكذا أعلن بيان لثلاثة فنانين شباب مغاربة دفعتهم غيرتهم على هذا البينالي اليتيم في المغرب إلى أن يقوموا بالإعداد لـ”كاتالوغ متخيل” يدعون فيه إلى التفكير في مصير البينالي من خلال هذه الدورة الفارغة الملغاة. ذلكم ضرب من الفعل الثقافي الفني الذي يشكل احتجاجاً رمزياً من جهة، وحداداً إيجابياً على تظاهرة فنية كانت مرتعا للفن المغربي والعالمي المعاصر.

إنه واقع عرفتُه من فم مديره حين التقيته قبل شهور بمناسبة اللقاء الذي أقيم بمراكش عن الفنان الراحل فريد بلكاهية. كان هذا الرجل المهندس المعماري العاشق للفن يتحدّث بحسرة عن اضطراره لإلغاء الدورة السابعة لموعد فني منح للفن المعاصر المغربي والمتوسطي والعربي كما الإفريقي فرصاً نادرة للتلاقح ولاكتشاف المواهب الفنية الشابة. فلقد ظل بينالي مراكش أحد البينالات العربية التي تمنح لغرب العالم العربي ما يمنحه له بينالي الشارقة، ولو أن الاحترافية التي يتميز بها الأول وعمق رصيده المالي والفني لا يغري بالمقارنة.

مفارقات الوساطة الفنية

إذا كانت البينالات العربية تتوالى لتغيب في صمت، فلأنها تتطلب إمكانات وتنظيماً وموارد مالية وبشرية تتجاوز بكثير ما تتطلبه المؤتمرات الأدبية والثقافية والفكرية وحتى السينمائية. البينالي الفني يخضع لنظام صارم، ولزمن أطول (سنتين) ولإعداد أعمق. كما أن الرهانات المالية والرمزية فيه أكبر، باعتبار أنه يستقبل أعمالاً فنية تكون أحياناً صعبة التدبير (لضخامتها أو لتعدد مكوناتها أو هشاشتها)، ويحتضن أحياناً ورشات لإنتاج الأعمال الفنية في عين المكان. وهو يتطلّب قَيِّماً أو أكثر على معارضه التي تكون متنوّعة ومتعددة، وفناناً سينوغرافياً لتهيئة مجالات العرض، وعمالاً تقنيين متخصصين في تركيبها وعرضها، من غير مساس بها أو تعريضها للخطر. والعديد من البينالات المعاصرة تتم في مواطن كثيرة ومتنوعة ومتباعدة قد تضم المدينة بكاملها، وقد تكتسح الفضاءات العامة ليكون المارة جمهورها، مستعرضة الأعمال الفنية عليهم كما لو كانت تشكل جزءاً من جسد المدينة.

تطورت الكثير من البينالات العربية مع الوقت وصارت هُجْنتها مع الزمن حديثة ومعاصرة، تتجاور فيها اللوحة مع المنشأة والمنجزة الفنية، حاملة تاريخها على إيقاع التطورات التي تعرفها الفنون. ذلك هو حال بينالي القاهرة، الذي تسهر عليه السلطة الثقافية الرسمية، والذي عرف اختلالات في الاستمرارية لمدة طويلة نظراً لأسباب يعزى بعضها إلى الموارد المالية وأخرى إلى الإرادة الثقافية والإستراتيجية الغائبة في مجال الإدارات الثقافية المصرية. بينما ولد بعضها بشكل اعتباطي، ليتحول مع الزمن إلى مَعْلم فني له مكانته في الخارطة الوسائطية الفنية في العالم. وذلك هو حال بينالي الشارقة للفنون الذي بدأ يحبو من غير أي إشعاع منذ 1993، ليغدو بينالاً محترفاً خاصاً بالفنون المعاصرة منذ 2003، ويتوالى على منحه هذا الميسم المتميز قَيِّمون عالميون سهروا على فرادة دوراته.

إن هذه الاختلالات والتوقُّفات والكبوات ليست وليدة اليوم. فكما أن العديد من البينالات المتخصصة (كبينالي الخزف الدولي في مصر الذي توقف لأكثر من عقد من الزمن بدوره) لم تعرف إشعاعاً قوياً بالنظر إلى شمولية البينالات الفنية الأخرى، فإن تاريخ البينالات العربية منذ السبعينيات عرف المصير نفسه. لنتذكرْ البينالي العربي، أحد البينالات العربية المتنقلة المائزة، الذي نظمت دورته الأولى ببغداد سنة 1974، وبالرباط سنة 1976، بحيث عرف مشاركة أغلب الفنانين البارزين آنذاك، سوف تصير أسماؤهم في ما بعد أعلاماً رائدة في الفنون التشكيلية العربية. كان هذا البينالي أشبه بحلم عابر، اصطدم بالعوائق السياسية التي كانت حينها لا تساير التوافقات الثقافية الدينامية التي ظلت تخترق الوطن العربي لمدة عقود متعاقبة.

إن هذه المصائر بكاملها تؤكد على هشاشة الوسائط العربية، سواء منها المجلات أو الغاليريهات أو المتاحف وغيرها. هذه الهشاشة التاريخية، لسوء الحظ، ليست نابعة من وضعية الفنون التشكيلية بالبلدان العربية، التي ظلت حاضرة بشكل قوي تجاوز الفنون الأخرى أحياناً، والتي تطورت في العقود الأخيرة لتصير قطاعاً ثقافياً مكتمل النمو بل بمشكلات تدبيرها. في المقابل، إذا كانت هذه الفنون تتبلور وتتطور نظراً لطابعها الفردي عموماً ولتفاعلات معينة وشبكات دولية (منح، إقامات…) بخصوص الفنون المعاصرة، فإن البنيات الوسائطية التي تؤرخ لذاكرتها، أو تمنح لها عيانية visibility وتداولية وقيمة تجارية لم تتطور بالشكل الكافي، تاركة السوق والتلقي في خضم فوضى يصعب تنظيمها.

يعود هذا الوضع بالأساس إلى غياب تقليد ثقافي للفنون البصرية من جهة كما لغياب لأساليب تدبيرها، وإلى غياب استراتيجية ثقافية عامة أو خاصة بالفنون البصرية. وهو غياب يُعزى بالأساس إلى الطابع غير المؤسسي للفنون البصرية (مقارنة مع السينما مثلاً)، ما يترك المجال مفتوحاً للمبادرات الفردية التي قد تكون ذات وقع إيجابي، كما كان حال بينالي مراكش المتوقف، أو ذات أغراض مصلحية شخصية كما هو حال بينالي الدار البيضاء، الذي يحتضن الرداءة الفنية ويغذيها أكثر مما يخدم التأصيل الجمالي للفنون البصرية المعاصرة.

الحداد الإيجابي… والأسئلة القلقة

يتوقف بينالي مراكش الدولي إذن بعد أن عرف دينامية كبرى ومنح للفن المعاصر وللمبدعين الشباب أولوية جعلت كثيرين منهم يعرفون عيانية visibility أكدت نزوعهم الإبداعي. وبالرغم من أن البينالات ليست مجالاً لتقويم حصيلة الفنون البصرية المحلية والعربية والدولية، إلا أنها مشتل ومرتع للتفاعل الدينامي وللحركية الممكنة والإشعاعية للتجارب الفردية والجماعية. فلقد عرف هذا البينالي المصير نفسه الذي عرفه صالون مراكش للفنون الذي لم يتجاوز بضع دورات في بدايات الألفية الجديدة، وبعده سنة 2010 معرض مراكش الدولي للفن الحديث والمعاصر، الذي جاء بمبادرة من إحدى دور البيع والعرض وتم تخصيصه لمشاركات الغاليريهات العربية والدولية، الذي لم يعمر بضع دورات.

يبدو أن توقف هذا البينالي في دورته يعتبر انتكاسة جديدة لعالم الفنون المعاصرة بالقدر الذي كان به توقف المهرجان الدولي للسينما بمراكش السنة الماضية نكسة للإشعاع السينمائي المغربي. والدعوة إلى كاتالوغ خيالي للتفكير في البينالي، من قِبَل ثلة من الفنانين الشباب المعاصرين هو نوع من الحداد الإيجابي الذي ينبغي أن يتحوّل إلى تفكير في مصائر المشاريع الوسائطية في مجالات الفنون والثقافة في المغرب كما في البلدان النامية والصاعدة.

كذلك يبدو أيضاً أن الأوصياء على الثقافة في هذا البلد يفضلون تنظيم معرض دولي للكتاب يتبدى للعيان سنة بعد أخرى أنه مرتع للكتاب الإسلامي وللإخوانيات الثقافية أكثر منه للإشعاع الثقافي، على التفكير في بينالي دولي للفنون، لأنهم بكل بساطة أميون بصرياً ولا أعين لهم لقراءة جمال وجماليات الفنون المرئية. بل إنهم بعد تردد دام عقوداً طويلة، شيّدوا متحفاً للفنون الحديثة والمعاصرة بالرباط تُصرف فيه الأموال الطائلة في تنظيم معارض لفنانين عالميين وهو لا يملك حتى مجموعة فنية وطنية.

لنردِّدْها بكل بساطة: لم يعد ممكناً مقارعة الظلامية الفكرية فقط بالكلمة، فالصورة صارت أشد نجاعة، والفنون عموماً، السمعية منها والبصرية صارت أكثر تأثيراً، لأن شباب اليوم يفكرون في الصورة، الذهنية منها والمرئية، ويتواصلون بالصور، ووحده الوعي بأهمية الصورة وخطورتها ومدى تأثيرها يمكّننا من تحْيين وعينا التاريخي وابتكار استراتيجيات جديدة ملائمة لزمننا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

X